بعد انهيار السلطنة العثمانية، دخل العالم العربي مرحلة القومية بتلاوينها المختلفة، لا سيما العربية والسورية. ومن العروبة المناهضة للعثمانية انتقل العالم العربي الى الطرح القومي الداعي الى وحدة الأمة على قاعدة التاريخ المشترك واللغة الواحدة. وبموازاة الطروحات القومية، برزت محاولات لإحياء الخلافة الإسلامية وحملت في طياتها صراع نفوذ بين القادة العرب، فكان البديل الممكن جماعة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة مؤسسها حسن البنا في 1928. في حقبة الانتداب البريطاني والفرنسي انخرط العالم العربي في معركة الاستقلال التي أخذت أشكالا ومضامين مختلفة في دول المنطقة. وبعد نكبة 1948 ونشوء دولة اسرائيل أصبح النزاع العربي – الاسرائيلي المحور الأساس في حركة السياسة العربية، داخل الدول وفي ما بينها. في خضم هذه التحولات، كان للمسيحيين موقع ودور. منظّرو القوميات الحديثة، العربية والسورية، كانوا من جذور مسيحية. انطون سعاده كتب في «نشوء الامم» وميشال عفلق «في سبيل البعث»، وغيرهم كثر ناضلوا في أحزاب اليسار بجناحيه، الشيوعي والاشتراكي.
في لبنان بدأت الثنائية السياسية تشق طريقها في الوسط المسيحي في مرحلة الانتداب مع بروز توجه منفتح على الداخل العربي مثّله بشاره الخوري و «الكتلة الدستورية» وآخر مغاير مثّله اميل اده و «الكتلة الوطنية»، الى ان حسم الامر في الاستقلال المتلازم مع الميثاق الوطني المرتكز على مقولة «لا للشرق ولا للغرب». بعد الاستقلال، ومع احتدام التنافس بين طرفي الحرب الباردة وحلفائهما في المنطقة، اشتدت المواجهة السياسية بين تيار سياسي في الوسط المسيحي متعاطف مع الغرب وحلفائه من القادة العرب وآخر مناهض. وقع الصدام في أزمة 1958 بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا وانخرط القادة المسيحيون، كما كل القوى السياسية اللبنانية، في الشرخ السياسي الاقليمي بين معارض للناصرية، قاده الرئيس كميل شمعون، وآخر داعم أو محايد، تمثل بموقف قائد الجيش فؤاد شهاب. ولم تغب الكنيسة عن المشهد السياسي بعدما اتخذ البطريرك المعوشي موقفا مناهضا لشمعون ولاحقا لشهاب. في الستينيات ظلت الثنائية قائمة، فأخذ الرئيس شهاب خيار التقارب مع عبد الناصر، قابله تيار سياسي معارض لأسباب داخلية وخارجية وانبثق عنه «الحلف الثلاثي» بين أقطاب الموارنة في انتخابات 1968.
حرب 1967 قلبت الأوضاع رأسا على عقب في لبنان والمنطقة. اتفاق القاهرة في 1969 أتاح للمنظمات الفلسطينية فتح الجبهة العسكرية عبر الحدود مع اسرائيل في ظل انقسام داخلي حاد بين مؤيد للعمل الفدائي بلا قيد أو شرط ومعارض لأسباب لا مجال لتفصيلها. ومع تحول لبنان «دولة مواجهة» مع اسرائيل وشلّ قدرة الجيش لوضع حد لتمدد المنظمات الفلسطينية المسلحة، خصوصا بعد صدامات 1973، شعر المسيحيون وغيرهم من اللبنانيين بأن المواجهة باتت داخل «دولة المواجهة» أكثر مما هي مع الاحتلال في فلسطين. في حرب السنتين (1975-1976) توحدت القيادات المسيحية في مواجهة السلاح الفلسطيني، كما توحّد القادة العرب بدعم هذا السلاح وفي لبنان بالذات. تبدلت الاوضاع عندما أصبح نفوذ ياسر عرفات في لبنان يتعارض مع النفوذ السوري، بعدما ساندت دمشق المنظمات الفلسطينية في المواجهات مع الدولة اللبنانية. بعد حرب السنتين انقسمت القوى المسيحية بين تيار مؤيد للتفاهم مع دمشق وآخر مناوئ الى حدّ الصدام العسكري في ظل سيطرة الاحزاب المعسكرة على البلاد. اثر الاجتياح الاسرائيلي في 1982، تحول الشرخ بين مؤيد للخيار السوري وآخر للخيار الاسرائيلي في بعض الأوساط الحزبية. وبعد انتهاء الحرب في 1990، تساوى المؤيد والمعارض لاتفاق الطائف من القادة المسيحيين في القمع والتهميش.
في السنوات الاخيرة بلغ الشرخ المذهبي في العالم العربي والاسلامي درجات غير مسبوقة، وسرعان ما وصلت شظاياه الى لبنان. في زمن مضى، كان الشرخ يعكس الخيارات السياسية على المستويين الاقليمي والدولي، وكان النزاع العربي – الاسرائيلي قبلة القضايا العربية المشتركة. أما اليوم فالانقسامات تسود: بين الدول وداخلها وبين «النصرة» و «داعش» وبين المذاهب في مجتمعات تطغى عليها الانتماءات الأولية السابقة للدولة الوطنية. فلا ورقة تين تستر ولا قضية مشتركة تحمي. وازدادت الاوضاع تعقيدا مع «صحوة» دول الجوار الاسلامي غير العربي: ايران الاسلامية منذ أكثر من ثلاثة عقود وتركيا العلمانية بقيادة الرئيس اردوغان، الاسلامي الهوى والطموح، في السنوات الاخيرة. هذا الطوفان السياسي الممذهب لم يسلم منه أحد في دول المنطقة ومجتمعاتها، ومنهم مسيحيو لبنان. فلا حرب باردة اليوم ولا عروبة جامعة، والنزاع العربي – الاسرائيلي يخاض على جبهتين: واحدة داخل فلسطين واخرى بين الفلسطينيين واسرائيل. في ظل هذا التشرذم المتفاقم وتهاوي الأنظمة والدول، تبدو خيارات المسيحيين محدودة. فالحياد صعب والانخراط مكلف، وفي الانكفاء إلغاء للذات، بينما يُقتلع المسيحييون من ديارهم ويقتلون في دول الجوار، شأنهم شأن سواهم من المختلفين في الدين والانتماء مع محترفي القتل الجماعي. فإذا كان البعض يرفض الظلم والاستهداف، على حد قول أركان هيئة العلماء المسلمين في لبنان، فماذا يقول المسيحيون وسائر «الكفار» في ظلم ذوي القربى، ولمن يشتكون؟
بدأت حروب لبنان في بعض جوانبها صراعا على الهوية وانتهت صراعا على السلطة بين اللبنانيين وسائر المتنازعين على الساحة اللبنانية على امتداد المنطقة. في الدستور المعدل أصبح لبنان عربي الهوية والانتماء بعدما اقتصرت عروبته في 1943 على «الوجه»، بينما العالم العربي ساحة لحروب محورها الهوية الدينية، لا بل المذهبية. إزاء هذا الفلتان المجنون، لا يحمل المسيحيون مشروع دولة دينية أو هيمنة على أحد، وما عليهم سوى المطالبة بحقوقهم كمواطنين في نظام سياسي ركيزته العيش المشترك، ما دام خيار الدولة المدنية المبني على المساواة في المواطنة يلامس «الكفر» بنظر بعض حراس الدين وخاطفيه بحد السيف.