Site icon IMLebanon

المسيحيّون في لبنان: عددهم ودورهم في قيام السلطة!

 

 

طرحت على بساط البحث مؤخراً مسألة قديمة – جديدة تتناول موضوع عدد المسيحيين في لبنان ومدى دور وقدرة وأحقّية هذه الفئة من الديموغرافيا اللبنانية في المساعدة على ارساء النظام السياسي اللبناني. وككل مرحلة من مراحل تاريخ لبنان كان الرأي منقسماً بين من يربطون الدور مباشرة ونسبياً بعدد المسيحيين داخل التركيبة اللبنانية، وبين من يتخطّى الرقم الديموغرافي العددي الى الوجود المسيحي خارج «العدّ» بل على قاعدة المساواة والمشاركة في الحياة الوطنية اللبنانية، وهو ما أكدت عليه وثيقة الوفاق الوطني بين اللبنانيين للعام 1989.

 

فالمسألة ليست مسألة عدد (ٍNOMBRE) بل مسألة حضور (Présence) على أنّ ذلك يصطدم بأمرين: السعي الاسلامي لاحتياز السلطة في لبنان. العمل على تطبيق أحد أهم مستلزمات الديمقراطية وهي العددية.

 

أثير الموضوع أثناء مقابلة تلفزيونية مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي حول تقرير ورده من مراجع روحية مسيحية دينية تفيد أنّ المسيحيين في لبنان الذين كانوا يشكّلون نسبة 23% من سكان لبنان، باتوا بعد انفجار مرفأ بيروت يشكّلون 19.4% من سكان لبنان فقط.

 

كان لهذا الموضوع انعكاس سلبيّ لدى الأوساط المسيحية، إن بالنسبة للرقم المعطى أم بالنسبة لمعنى إبلاغه للرئيس ميقاتي من مرجعية دينية مسيحية!

 

منافسة الطوائف

 

يتألف سكان لبنان من ثماني عشرة طائفة لديها كيانها الخاص المتمثّل في معتقداتها وتقاليدها وطقوسها وجمعياتها ومؤسساتها وزعاماتها. وتبعاً لتطوراتها الديموغرافية وانتشارها الجغرافي وثقافاتها وأحياناً عبر علاقاتها بالخارج، تقوم منافسات سلطوية بين هذه الطوائف للسيطرة على الحيّز اللبناني وأكبر مساحة منه كما تعمل قوى الجوار للسيطرة بواسطة بعض الطوائف على البلاد.

 

من المسلّم به أنّ لعدد السكان أهمية في حياة الدول، ويذهب فريديريك راتزل صاحب الكتاب المرجعي في الجغرافيا السياسية إلى أنّ عدد السكان يؤثر على سياسة الدولة إذ يزيد من امكانية قيام جيش أكبر وبالتالي السيطرة على حيّز أكبر. ولكنه يربط هذا الأمر بشرط النوعيّة في السكان وليس بالنسبة العدديّة فقط. وهذا هو وضع لبنان بالذات حيث النوعيّة كانت دائماً معياراً للوجود اللبناني: سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، من هنا الاختلاف حول أرقام عدد السكان على مختلف الصعد وخاصة على الصعيد الديني. وبالتالي وجود اختلافات كبيرة في الاحصاءات السكنية، وتوقّف الاحصاء لفترة طويلة، والاختلافات حول عدد السكان المقيمين والمغتربين، والمسيحيين والمسلمين.

 

من الطبيعي أن يتناقص عدد الأقلية المسيحية في الشرق الأوسط عامة وفي لبنان خاصة بفعل الظروف والأحداث التي تشهدها المنطقة وازدياد ونفوذ الأكثرية العربية السنيّة. على أنّ نسبة هذا التحوّل (هذا التناقض)، لا يمكن أن يصبح بمثابة سلاح سياسي ضد الأقلية المسيحية في لبنان بشكل خاص. وفي عودة إلى مؤلف اكاديمي لباحث معروف وهو الدكتور سعد الدين ابراهيم بعنوان: تأملات في مسألة الأقليات، يضع توزيعاً تفصيلياً لسكان لبنان في أوائل التسعينات، وفيه أنّ العرب المسلمين يشكّلون نسبة 51.5% في حين يشكّل العرب المسيحيون مع الأرمن المسيحيين نسبة 47.9% (ص 160). ولقد أوردنا في كتابنا: «مدخل إلى الخصوصية اللبنانية» ثم «جيوبوليتيك لبنان الاستراتيجية اللبنانية» عشرات الجداول حول أعداد سكان لبنان بين العام 1920 والزمن الحاضر.

 

العدد الأكبر من الأقليات

 

إن الشرق الأوسط ونموذجه لبنان هو أكثر البقاع الجغرافية التي تحوي العدد الأكبر من الأقليات (59 أقلية) وعندما تكون أقلية هامشية في السكان، يصبح دورها هامشياً شأن الاقباط في مصر، أما اذا كانت صلبية في السكان فيكون دورها صلبياً وهذا هو وضع الموارنة في لبنان، فللموارنة دور خاص في قيام لبنان الدولة من حيث كيانها واستقلالها ودورها ورسالتها في هذه المنطقة من العالم. ولذا نراهم يصرّون على القيام بدور مميّز في الحفاظ على لبنان السيّد المستقلّ وذلك بمعزل عن نسبتهم العدديّة. فلبنان في الزمن التاريخي اللاهوتي للموارنة هو «رمز»، وهذه الصفة هي أبعد من صفة البلد – الرسالة!

 

1- ولأنه كذلك، فإن الدياسبورا اللبنانية، التي هي واحدة من كبريات الدياسبورا في العالم (12 مليون عدد الدياسبورا اللبنانية بحسب العدد الخاص الصادر عن دار (Le Monde – La vie) في باريس للعام 2018 صفحة 140 نشرة خاصة عنوانها: (L’ATLAS des peoples). ولأوّل مرّة، يجري تقييم الدياسبورا اللبنانية في مراكز الاحصاء العالمية وخارج الاحصاءات المعلّبة والموجهة والفاقدة للمصداقية والموضوعية! ومن المؤشرات لتشويه صحة الاحصاءات السكانية، وتحديداً سكان لبنان، استخدام وسيلة التجنيس (نموذجها المرسوم رقم 1994) بحيث يتم تجنيس من ليس لهم الحق في الجنسية سعياً لاستخدام الديموغرافيا كسلاح للسيطرة على الجغرافيا. إنّ لبنان يعاني من مشكلة وجودية كبرى تتعلق بالسكان المقيمين على أرضه، فهناك المقيمون الشرعيون من أبناء البلد من ذوي الأصول اللبنانية التاريخية. وهناك المقيمون الوافدون أو اللاجئون الذين جعلتهم الأوضاع السياسية والأمنية يتركون بلدانهم المجاورة لنا والقريبة منا، ويأتون للإقامة في لبنان، ووجه الخطورة في الأمر يعود إلى ثلاثة اعتبارات:

 

أولها:النسبة العالية من عدد اللاجئين، فإذا كان معدّل اللجوء الفلسطيني في لبنان قد استقر في حدود خمسماية ألف لاجئ فلسطيني، فإنّ الموجات السورية للاجئين من بلاد الشام تجاوزت المليوني شخص. وهكذا يصبح لبنان رازحاً تحت ما يقارب الميلونين ونصف من اللاجئين أي ما يقارب نصف عدد السكان. وهي نسبة لم يشهد العالم مثيلاً لها.

 

ثانيها: إنّ هذا العبء الثقيل على حدود لبنان يؤدي إلى خلل سياسي واجتماعي واقتصادي وأمني وهو ما نشهد العديد من مظاهره في حياتنا العامة في اكثر من مجال ومكان.

 

ثالثها: وجود ترابط في المصالح بين الاستراتيجية الاسرائيلية لابعاد واستبعاد العرب السنة عنها لأنّها تعتبر الخطر الديموغرافي أخطر من السلاح، والدول الغربية التي عادة ما ترعي التوجّه السياسي الاسرائيلي. ومن هنا عدم القيام بمبادرة لاخراج اللاجئين السوريين من لبنان واعادتهم إلى بلادهم، بل على العكس يتم وضع أموال وتعويضات لهم ولتعليمهم في المدارس اللبنانية باهتمام يفتقد إلى مثله التلامذة اللبنانيون!

 

في الخلاصة، إن موضوع الديموغرافيا، أي عدد السكان، هو موضوع أساسي في المعادلة اللبنانية. وإنّ مقاربة هذا الموضوع لا تتم، وينبغي أن لا تتم، بأسلوب التعصب العاطفي الطائفي في آن. إنّه جزء مهم من صياغة الاستراتيجية اللبنانية انطلاقاً من الجيوبوليتك اللبناني. فنحن دولة – حاجز تقع على حدود الخطر الدائم كما يصنّفها ميشال شيحا. ولذا علينا أن نتمسك ونلتزم بكيانية هذه الدولة. وأن ندرك بدقة مخاطر التجارب التي تمر بها.

 

إنّ وجودنا كشعب راق على مفترق الشرق الأدنى، منذ زمن الألفباء الفينيقية في بيبلوس، يجعلنا نواجه المخاطر بوعي وصلابة وقدرة على التبصر. لأنّ السياسة في النهاية هي فن التبصّر أي النظر الى الأمام وارتسام المستقبل. إنّ وجودنا في قلب العالم هو جزء اساسيّ من وجودنا في قلب لبنان!

 

(*) باحث في الفكر الجيوسياسي