Site icon IMLebanon

مصلحة المسيحيين ومصلحة الحريري

تعود إلى الواجهة أسئلة عن الواقع المسيحيّ، في اللحظات الجلّى المعيشة، والعواصف الهوجاء هابّة وتنذر بعناوين تكوينيّة لا تزال ضبابيّة من حيث التحديد، ولكنّها تسير بلبنان وسوريا والعراق والمشرق إلى حيث لا يشاؤها كثيرون إذا ما تمّ حسم الحرب على الإرهاب بصورة جذريّة ونهائيّة، يطلّ بها الناس على بداءة فجر ينذر بضياء كبير.

لا تنفصل الأسئلة بكثافتها عن مصير معظم المكوّنات الشريكة للمسيحيين في التكوين والتأسيس التاريخيّ لهذا المدى بسياقات عديدة ومختلفة، ولكنها في النهاية تملك خصوصيّة واضحة تجيء من أنّ الهجرة تطالهم بعد أن رأوا مسيحيي العراق بلا عراقهم، وقد غدوا في مهبّ رياح عبثيّة، ومسيحيو سوريا وإن صمدوا في مواقع لهم اساسيّة لكنّهم غير مطمئنين ويساورهم القلق الوجوديّ في لحظات معبّرة عن ركود في الحلول المتماهي مع عدم الحسم.

لبنان وحده يبقى مساحة التساؤلات المعروفة من الجميع، وتتسع تلك المساحة من معرفة واضحة بأنّ مسيحيي لبنان وإن تعثّروا وسقطوا في تجارب مؤلمة لكنّهم يظلّون وبامتياز كامل شريان الحياة للمسيحيين العرب، وقد أثبتت التجارب ذلك الزعم، إذ لا تزال المسيحية السياسيّة اللبنانيّة وعلى الرغم من الندوب والعطب تضج في لبنان بل يضجّ بها لبنان، وقد أدرك كثيرون بأنّ المسيحيين ملح لبنان ونوره وهذا ما قاله مسلمون اكابر في لحظات الهدوء والتأمّل القلق، ولا يزال ذلك المفهوم مدى للذوق الرصين والطيبّ بأنّ المناصفة الفعليّة تترجم الميثاق وتجسده وللجميع مصلحة ومنفعة من تثميره وتجذيره في سبيل أن يظلّ الاعتدال عند الجميع أساسًا متينًا وصلبًا لمواجهة كلّ تطرّف وارد إلينا ويعبث بنا ويشاء رمينا في مجهول عدميّ قاتل.

وفي تأمّل لتلك المفاهيم النابعة من التساؤلات المطروحة، يطلّ مرجع مسيحيّ إلى واجهة الخطاب السياسيّ المرتبط بهذا المسرى ليعلن بأنّ المسيحيين وبدقّة كاملة لم يبلغوا بعد تفاهمًا كاملاً نابعًا من قراءات استراتيجيّة تفعّل مشيئة الدور عندهم بسياق وجوديّ مستشرف للعالم الجديد بدءًا من تحليل دقيق لمعنى الإرهاب والحرب عليه ومعنى الحرب عليه بمن يحارب ويواجه، فترتقي القراءة الى ملامسة الحقائق بلا وجل ولا زغل، متخطين العمارة الإيديولوجيّة البائدة تجاه سوريا أو تجاه حزب الله أو تجاه من يقاتل الإرهاب، فالمسيحيون عرضة له كما المسلمون أيضًا، القضيّة أنّ وحدة المواجهة بالمعاني مفقودة مما يعني أنّ المسيحيين بقسم كبير منه غير معنيين بهذا الفهم الحقيقيّ والدقيق.

وينطلق المرحع المذكور من اتفاق معراب الأخير مشيرًا بأنه خادم لمحطات لحظويّة، وهو، وإن أعترف بأن إسرائيل عدوّة لكنّه لم يفعل نحو ملامسة تقفز فوق الانتخابات الرئاسيّة لتاتي بها بعد حين في لحظات قراءة الأوضاع في سوريا. في هذا، المسيحيون على خلاف كبير في الاستراتيجيا، والخلاف عينه مسقَط في البنى الداخليّة على مستوى الدولة وأجهزتها، ويحول بالتالي من فرض الخطاب بكليّته في الجزئيّات كما في قضيّة جهاز أمن الدولة أو سواها. ويشير المرحع المذكور إلى أنّ ثمّة اعتداءً سافرًا على حقوق المسيحيين لا يزال يمارس بلا هوادة، بإفراغ الدولة تدريجيًّا منهم، فالمسيحيّة السياسيّة لا تتأسس فعليًّا إلاّ في الكيان والدولة تعبير فصيح عن هذا الكيان، لأنها تأتي منه. لكنّ الاعتداء الأمضى والأكثر إيلامًا يبدأ بمحاولة تشييع قانون انتخابيّ سيرمي بالمسيحيين خارج المعادلة السياسيّة بالمطلق وهو قانون الستين أو القانون المختلط، ويعتبر المرجع المسيحيّ بأنّ ثمّة إمعانًا بجعل هذه الأطروحة مادّة لابتزاز حقيقيّ ينتمي بمفهومه إلى أدوات الشرط وأفعال التفضيل، وهذا وبرأيه أخطر ما يحصل الآن مستغلين عناوين أخرى للتعمية. والاعتداء الآخر المكمّل لهذا الأمر عدم قبول معظم الأفرقاء الآخرين بوصول رئيس قويّ للجمهوريّة كالعماد ميشال عون، وهو مرشّح حائز على تأييد حزبين كبيرين في المدى المسيحيّ كما حائز على تأييد حزب الله في المدى الشيعيّ.

ويكمّل المرجع محلّلاً بأنّ الاعتدال السنيّ إن رمنا وجوده وديمومته كسياق متحرك بالبلد من زاوية التفاوض له مصلحة بقبول ما يقبل به المسيحيون وليس العكس لأنّ العكس يشكف مآرب أخرى متصلة بآفاق المعارك في المنطقة، ويفصح قائلاً بأنّ الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري أوّل من يجب ان تكون له مصلحة في حسم هذا النقاش، والمصلحة تتجلّى من زاوية بنيويّة تخصّ تيار المستقبل وانقساماته كما من نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة وبنوع خاص نتيجة طرابلس. ويشير بأن الحريري قد طوّق من الجميع، وهو وإن ظلّ مصرًّا على تأكيد انتمائه للسعوديّة ولكنّه لم يفهم أنه بات مرذولاً منهم وقد يصير ضحيّة سعوديات كثيرة تفشّت انقساماتها حتى داخل مؤسسته في المملكة، وهي تتراكم على الأرض وتتصادم، فما هي مصلحته بأن يبقى اسير الصراعات المتصاعدة سواء بين السعوديين أو بين السعوديّة وقطر؟ ولقد كان وليد جنبلاط على حقّ والكلام لهذا المرجع حينما دعاه للعقلانيّة بعد متفجرة فردان، فهي السبيل الوحيد للاستشراف المرن وقراءة التداعيات وتكملة الحوار مع حزب الله وإعادة تجديده مع العماد ميشال عون.

وحين يسأل المرجع المذكور هل يرى اعتدالاً سنيًّا يمثله سعد الحريري متلاقيًا مع الواقع المسيحيّ؟ يجيب بأنّ معلوماته تقول بأن الأمر لا يزال يحتاج لمزيد من الإنضاج ومن ثمّ النضوج الطوعيّ والنوعيّ. فالرئيس سعد الحريري يعيش لحظات الصدمات على كلّ المستويات وهي متراكمة بوجهه ولم يألفها البتة من قبل، وتراه على الرغم من شدّتها يظهر متماسكًا. وعلى الرغم من كلّ شيء إنّ مفهوم الاعتدال السنيّ مطّاط للغاية، فهو إمّا أن يكون في الحق والجوهر ليبراليًّا على غرار ما ألفناه في ثنائيّات شكلّت صمّام أمان للبنان وسلامه، وحفظته على الرغم من الحروب المتعاقبة بحلّته الحاليّة، أو أنّه يكون غلافًا لتطرّف نأى بالمسيحيين خارجًا في حقبة ما بعد الطائف، فاستبدل الأقوياء الحائزين للنسب العالية من التمثيل والحضور بالضعفاء المستولدين في هذا الكنف عينًا، وسبب الصراخ المسيحيّ هو هذا عينًا. الرئيس سعد الحريري ليس له سوى هذا الخطّ إذا رام التموضع بصدق في الحياة السياسيّة اللبنانيّة على مستوى الحكم، والتموضع يتطلّب تواضعًا وحوارًا هادئًا مع حزب الله، وهو في خطاباته الأخيرة أكّد على تلك الثابتة، ثابتة الحوار، لكنّه أيضًا يحتاج لتفعيل الحوار مع العماد ميشال عون للتأكيد على أنّ ثوابت المسيحيين تعنيه بجوهرها، وتعني الإسلام الذي يمثّله، فيقول على عكس الصقور في تياره بأنّه يؤيّد النسبيّة الكاملة، متخليًّا عن القانون المختلط، كما يؤيّد وصول العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة على أساس ما تمّ الاتفاق عليه للحظات سابقة، أي وصول من يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته المطلقة للرئاسة متلاقيًا معه لكونه يمثّل الوجدان السنيّ بأكثريته المطلقة فتعود الروح تدريجيًّا للميثاق الوطني وجه الكيان اللبنانيّ وقلبه وعقله.

وعلى الرغم من ذلك، ثمّة قفزات ووثبات مطلوبة من ضمن الخصوصيّة المسيحيّة. وكما رأى المرجع المسيحيّ، ليس الهمّ أن يظلّ التوافق أو التحالف المسيحيّ-المسيحيّ لحظويًّا تبيحه المصلحة الانتخابيّة، مع الإقرار بأنّ الحراك السياسيّ زئبقيّ في الذهاب نحو تحالف هنا أو افتراق وتبدّلات هناك، وقد تتم الإطاحة بالثوابت. لكنّ دقّة المرحلة تتطلبّ بالضرورة القصوى، ألاّ يتوقّف مسيحيو لبنان عند اللحظويات بأساليبها الضبابيّة فيما هاجس المصير يفتك بعناصر الوجود. وقبل إلقاء التهم على الموّنات الأخرى في النأي والعزل، فليجر المسيحيون في اللحظة المناسبة قراءة نقديّة تطال معظم التفاصيل الدقيقة، فيرنون منها ويطلّون بها إلى معارج جديدة تتناسب والمرحلة الحاليّة. فبالنسبة للمرجع تتمثّل المرحلة بالتالي:

1- فهم حقيقيّ وصادق لمعنى وجودنا في لبنان بالقياس للمراحل السابقة.

2- قراءة حقيقيّة للكيان اللبنانيّ وعلاقة المسيحيين به بصورة جذرية.

3- علاقة المسيحيين اللبنانيين بالمسيحيين العرب، وكيف يمكن مساعدتهم في لحظاتهم القاسية فيما هم يعيشون قلق المصير. (ربما العودة إلى الوثيقة الصادرة عن مؤتمر المسيحيين المشارقة المنعقد في تشرين الثاني من سنة 2014 نافعة للغاية).

4-قراءة استراتيجيّة لدور حزب الله في الحرب على الإرهاب في سوريا، ضمن مقاربة عقلانيّة لا تستند للخلفيات الإيديولوجيّة المغلقة بل لمصلحة تجمع الكلّ في هذا الهدف.

5-العلاقة المسيحيّة-الإسلاميّة وضرورة حمايتها لتبقى مسرى حقيقيًّا في إعادة الحياة للميثاق الوطنيّ.

وينهي المرجع المسيحيّ قائلاً، متى اتفق المسيحيون بكلّ أطيافهم على المسلمات الاستراتيجيّة الوجوديّة، وبعيدًا عن الإرهاصات الدمويّة الفاتكة بهم حتى الساعة إذا أدمنوا على السكنى في الذاكرات المتورمة بلا غفران متبادل حقيقيّ بالمعنى المسيحيّ-الإنجيليّ، عندئذ يسهل كثيرًا نيل المطالب إن على مستوى الرئاسة أو على مستوى قانون انتخايات أو على مستوى تفاصيل أخرى. المعنى الإيديولوجيّ-السياسيّ الجديد هو المطلوب اليوم في لحظات الحرب على الإرهاب، فالقضيّة طويلة على المستوى السوريّ، ويتطلّب الجوّ تفاعلاً مع الجميع في لبنان، مع تيار المستقبل مع حزب الله مع القوى المستقلّة، هذا التفاعل قادر على صياغة رؤى جديدة، وقادر على التأكيد بانّ العماد ميشال عون يملك القدرة للوصول على الرئاسة كما سعد الحريري أيضًا. هذا النَفَس يحمي مسيحيي لبنان ويؤهلهم ليكونوا مطلاًّ للمسيحيين العرب، ويعيد للميثاق الوطنيّ والمناصفة جوهرهما المضيء.