هناك نظرية تقول إنّ تلّ أبيب لا يمكن أن تصبح يوماً في حال سلام مع كلّ شعوب المنطقة، لأنّ علّة وجودها قائمة على الحرب، وبالتالي اللحظة التي يدخل فيها الشعب اليهودي في حال استرخاء يبدأ العدّ التنازلي لزوال إسرائيل من الشرق.
بمعزلٍ عن صحّة هذه النظرية أم عدمها، كلّ الوقائع تؤكد أنّ إسرائيل ضدّ السلام، بل هي تعتبر ضمناً السلامَ عدوَّها الأول. وأحد الهواجس الأساسية في الرفض الإسرائيلي للسلام هو العامل الديموغرافي الذي يشكل نقطةَ ضعفٍ بُنيوية في محيطٍ اعتباراتُه دينية لا مدنية، وتُحَركه الغرائز والنزاعات الدموية لا السياسة والنظريات الاقتصادية.
وفي موازاة الرفض الإسرائيلي العقائدي للسلام، برزت الحال الشيعية مع الثورة الخُمَينية التي أعادت تحريكَ الوجدان الشيعي من منطلق رفع المظلومية التاريخية، الأمر الذي استدعى خلقَ عدو تحت مسمى الاستكبار العالمي، وشكلت الدولة الإسرائيلية خدمة مهمة من أجل التوسع بحجة إزالة إسرائيل من الوجود.
وفي الوقت الذي شكّل فيه البعث السوري متنفَساً مهماً لهذا المشروع الذي دخل إلى لبنان عن طريق هذا البعث بدءاً من العام ١٩٨٢ من أجل ربط النزاع مع تلّ أبيب، أدّى إسقاط نظام صدام حسين إلى إخراج الحال الشيعية الإيرانية من القمقم، فأخذت بالتوسّع ومدّ النفوذ من بيروت إلى صنعاء.
وإذا كانت إسرائيلُ تستنفرُ شعبها ضدّ جزء من الشعب الفلسطيني والمحور الإيراني وتُعبِّئه بتصوير المعركة مع هذه الجهات من طبيعةٍ وجودية، فإنّ المحور الإيراني يخوض معاركه أيضاً على أساسٍ وجودي في مواجهة إسرائيل دائماً والتكفيريين حديثاً.
فإسرائيل تستنفر العصبيات عن سابقِ تصوّرٍ وتصميم، وكذلك الأمر بالنسبة للمحوَر الإيراني. وإسرائيل تدرك أنّ استمراريتها مشروطة بخلقِ عدو، والأمر نفسه بالنسبة للمحوَر الإيراني. وفي المقابل البيئة السنّية مقسومة بين أقلية متطرّفة ساهمت الأزمةُ السورية في نموِّها وانتشارها، وبين أكثرية معتدِلة منشغلة بثلاث مواجهات: مواجهة تَمَدُّد النفوذ الإيراني، ومواجهة التعنّت الإسرائيلي برفض إقامة دولة فلسطينية، ومواجهة الحال المتطرّفة.
وفي كلّ هذا المشهد يبقى السؤال عن الوضع المسيحي، ووجوده المشرقي هامشي أساساً، وقد شارف اليوم على الزوال، وأمّا الحضور المسيحي في لبنان فيستدعي التفكير جدّياً بالمسار الذي يُفترض اعتماده حفاظاً على هذا الوجود في هذه البقعة من الشرق.
وفي هذا السياق تبرز وجهتا نظر: الأولى تدعو إلى مزيدٍ من الشيء نفسه، أيْ مواصلة النضال من المربع الوطني الذي أثبت فعاليته ونجاحه، لأنه ليس تفصيلاً أن يكون الانقسام إبان الحرب من طبيعة طائفية، وأن يتحوّل التحالف اليوم من طبيعة وطنية، وبالتالي لا مصلحةَ إطلاقاً للمسيحيين بالانكفاء إلى داخل طائفتهم بعدما نجحوا في نسج تحالفاتٍ وطنية بعمقٍ عربي، فضلاً عن أنّ التجربة اللبنانية لا تستقيم إلّا من خلال الحال التي تجسّدت في ١٤ آذار وعبّرت عن رؤيةٍ مشترَكة للقضية اللبنانية.
وأمّا الثانية فتدعو إلى تغليب الهمّ المسيحي على الهمّ الوطني ليس من منطلق انسحابي وتراجعي وانكفائي كما يحلو للبعض تصويره، بل لتَعَذّر الوصول إلى سلام لبناني حقيقي يعيد الاعتبارَ لمنطق الدولة والدستور والقانون، ولأنّ الأكثر تضرراً من عدم الاستقرار هم المسيحيون الذين تراجع حضورهم في لبنان ودورهم منذ الحرب إلى اليوم بشكلٍ مخيف، ولأنّ استمرار هذا الوضع من عدم الاستقرار، الذي تفيد كلّ المؤشرات بأنه سيطول، سينعكس مزيداً من التراجع والضعف والنزف إلى حدّ الزوال بعد عقود، ولأنّ الحلّ الوحيد هو في تحصين وجودهم في سياق سياسةِ بقاءٍ تُخوِّلهم عبورَ هذه المرحلة بأقل الأضرار الممكنة.
فالمطروح ليس انسحابهم من المعركة الوطنية، بل كيفية صمودهم سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً وجغرافياً في ظلّ صراع طويل، وأيّ رهان على انتهاء هذا الصراع سريعاً أو على تسليم «حزب الله» لسلاحه هو وَهْمٌ ما بعده وَهْم، وبالتالي هناك حاجة مُلِحة لأمرين:
الأمر الأول، تفهّم إسلامي لأولويات مسيحية، من دونها المسيحيون في لبنان إلى زوال. فالوقت لا يعمل لمصلحتهم بخلاف السنّة الذين يلعبون لعبة الوقت انطلاقاً من المقولة المشنوقية «أمة وعدد ومدد»، وبخلاف الشيعة أيضاً الذين خرجوا من القمقم وهم اليوم في حال صعود وتوسع.
الأمر الثاني، إعادة الحيوية إلى الجسم المسيحي من خلال إحياء العصبية المسيحية الكفيلة بتحفيزهم وتقويتهم وعودة الحماسة إلى نفوسهم والصلابة إلى ممارستهم تحت عنوان: المسيحيون في خطر. وفي موازاة الحيوية، وضعُ رؤية متكامِلة للمشاريع التي يُفترض رفعها تمهيدا لإقرارها في سياق تعزيز سياسة الصمود.
ويبقى أنّ تحصين الوجود المسيحي هو هدف وطني وليس مسيحيّاً، ومسؤولية إسلامية-مسيحية.