ثمة تعبير مكنون في الكنيسة الأرثوذكسية، يكشف المسيح المولود في مزود بيت لحم بأنه مشرق المشارق. لماذا يراد لناسوتيته أن تتحلى بها تلك الصفة أو تتحلى هي بهذه الصفة؟ تعود الكنيسة بتلك التسمية إلى نسبة المسيح البشرية المدونة عند متى الإنجيلي، حيث يعيد نسبة المسيح إلى داوود الملك فيما لوقا الإنجيلي يعيده إلى آدم كاشفا أن المسيح ظهر آدم جديدا، وما ظهوره إلا سطوع التاريخ جديد يجيء من مدى عينيه.
عند متى الرسول المسيح ملك اليهود، شجرة العائلة على الطريقة الشرقية تثبت أن المسيح وهو من نسل داوود يكمله في الملوكية في النسبة اليهودية ليسود أنو اليهود. عند لوقا هو آدم الجديد مطوعا بشريته وعاطفا إياها إلى لحظات البداءة في التكوين وهي لحظة انسكاب الأزل فيمن سقطا سقوطا مريعا منه إلى التراب ليصيرا ترابا. آدم الجديد وحواء الجديدة أي المسيح وأمه مريم يرسمان من مذود بيت لحم تكوينا جديدا مجبولا بضياء الثالوث «إذ إن مملكتك الأبدية تجددت أزليتها» حين ورود المسيح واستكانته في جوف التاريخ لينزع عنه التراب ويجدده بالنعمة والحق.
في الناسوت هو من هذا المشرق. في سفر التكوين، يخلق الله الإنسان من التراب بمعنى أنه يكسبه الهوية البشرية والوطنية بمعانيها الثقافية والتاريخية. عند يوحنا الإنجيلي توصيف دقيق لعمق التجسد بقوله «والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقا» من دقق بمعاني تلك الآية لاحظ أن التجسد أي ميلاد المسيح كان لصوقا من السماء بالأرض. بمعنى أن الله الآب شاء المسيح نسلا تاريخيا تتكشف فيه معالم الهوية ببهائها بمقدار ما يكشفه وليدا إلهيا أو مولودا منه قبل كل الدهور.
في التجسد والميلاد جاء يسوع إلها تاما وإنسانا تاما. حين صار إنسانا جسده يكون من تراب فلسطين أي تراب المشرق. بمعنى أن المسيح لبس جسدا مشرقيا أي لبس وبتعبير كياني المشرق جسدا. لا يفترض بهذا الكلام أن يدخل المسيحية في منطلقات قومية لطالما حاربتها عند اليهود ولفظتها من لاهوتها. اللاهوت لا يبنى من مفردات قومية وعرقية. غير أن المسيحيين حين يأخذون نحو هذا المصطلح أي المشرقية، فهذا لا يقولون بأنهم غير مستوردين من مكان قصي. فإلههم الذي ولد في بيت لحم وتجول في فلسطين وصولا إلى تخوم صور وصيدا كتب ككلمة الله من هذه الحقيقة. المسيحيون الآتون من المشرق كسبوا هويتهم مباشرة من إله صار جسدا من ترابه فلبسه بهضابه وجباله، بسهوله ووديانه، ببحره وينابيعه، بقراه ومدنه.
يشي جوهر الكلام برؤية موضوعة للتأمل. فحوى تلك الرؤية بأن المسيحيين الأوائل المجايلين المسيح سكروا ببهائه حتى الموت. عرفوه محبة كاملة ذاقوه لطفا طيبا فهموه إلها حمل إليهم السماء فبدأ وجه الله. كمال الرؤية أنهم جاؤوا من هذه الحقيقة، هي أوجدتهم ولم يوجدوها، لم تنبت جذورهم وتبنى أصولهم إلا بها. بهذا البناء حدد المسيح المدى الجغرافي بملء ناسوتيته وجلال ألوهيته، والكنيسة أي الأمة هي صوته في التاريخ كل تاريخ.
يحكي التجسد تلك الحقيقة، لكن كشفها ما تم إلا بموت المسيح وقيامته. هو علق على خشبة لأن نصر الله لا يتم إلا من موت. هذا يلمس في الميلاد لأن ميلاده صليب صغير وهو المقدمة للجلجلة. في الميلاد قرر هيرودس الوالي قتل أطفال بيت لحم لأنه فهم من الملوك والمجوس بأن المسيح ولد ملكا لليهود فشاء قتله مع الصبية. لم يولد المسيح ملكا لليهود بل ملكا للعالم للكون الجديد المتحدر من ازليته إلى أبدية لكل جنس بشري. اليهود حاولوا القضاء عليه من لحظة الميلاد إلى لحظة الجلجلة فانتصر عليهم بقيامته التي حاولوا إخفاءها إخفاء كاملا فما أفلحوا.
قوم المسيح في المشرق ممدودون من المهد إلى اللحد من مذبح المزود إلى مذبح الجلجلة لكنهم ناهدون نحو القيامة. هل يتلمس مسيحيو المشرق هذه الحقيقة ليبقوا ويستمروا؟ تاريخ المسيحيين مليء بصلبان، ممدودون هم من أنياب الأسود في ملاعب روما إلى سيف داعش. كل من يضطهدهم يخشاهم، ولكن الاضطهاد تعبير صريح عن خوفهم من القيامة… قيامة المسيح تخيف إسرائيل، قومهم يخيفونهم لأنهم يذكرونهم بأنهم صلبوه.
ميلاد المسيح ليس عيدا فقط هو حقيقة لتذكر مسيحيي هذه البلاد بأنهم مدعوون ليكونوا مسيحا متحركا في تراب مشرق لا يستعيد توازنه إلا بهم وبرسوخهم. ميلاد المسيح ميلادنا فيه وميلاد المشرق فيه حتى به نتحرك ونبقى ونستمر.