يحلو للبنانيين المبالغة في كل ما يعتقدونه متناسباً مع عجزهم أو جهلهم. هذه قاعدة تسمح لهم ليس بالمناورة، بل بتضييع الوقت، وهذه حرفة لا يظهر الناس عندنا انزعاجهم منها.
اليوم، يسأل الجميع عن مصير الاستحقاق الرئاسي. الغالبية من المعنيين، كما المراقبون، تستسهل رمي الأمر على الخارج. يفترض هؤلاء أن مصير الرئاسة سيحسم في إطار المفاوضات النووية الاميركية ــ الايرانية، ويذهبون بعيداً في التفسيرات والاحتمالات، ما يجعل مرشحين أقوياء يحاولون التعامل مع الوقائع والمعطيات بصورة واضحة، فيما يلجأ البقية الى الصمت ولعبة الانتظار، ظناً منهم بأن اختيارهم لهذا المنصب رهن التسوية الكبرى.
أما كل كلام لهؤلاء، بأن ابحثوا في المناسب لكم ولا تنتظروا الخارج، فيصبح ضرباً من الجنون، أو تمويهاً مقصوداً. لكن ما لا يرغب الجميع في سماعه، أن الاستحقاق الرئاسي هذه المرة مختلف كثيراً، وكثيراً جداً، عن كل المرات السابقة، وأن التسوية الوحيدة المناسبة له هي التي تتعلق بالحسابات الداخلية، من دون إهمال معطيات خارجية. لكن الخارج يتحمل النتائج بحسب موازين القوى في لبنان، أكثر من أي أمر آخر.
قاعدة انتخاب الرئيس في لبنان تقوم، اليوم، على مبدأ أن الترشيح يصدر من عند المسيحيين، ويُترك للسنّة والشيعة التصويت. وفي حال حصل انقسام حاد، كما هي الحال اليوم، يكون الحل إما بتوافق سنّي ــ شيعي يفرض على المسيحيين رئيساً من بين مرشحين شرعيين، أو أن يتوافق المسيحيون على شخصية يلزمون بها المسلمين، وتالياً الخارج.
وفي حالتنا الراهنة، هناك العماد ميشال عون، وهو مرشح قوي لديه الشرعية الشعبية والسياسية والاخلاقية الكافية لتولي هذا المنصب. يواجهه مرشحون كثر، بينهم من يفتقد الكثير من «المؤهلات الوطنية» كسمير جعجع، والى جانبهما، مجموعة من الشخصيات التي يتميز بعضها عن بعض بصورة كبيرة، من قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي يعتقد أن عنوان الامن يحمله الى بعبدا، الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يريد للوضع المالي والنقدي للدولة أن يحمله الى الرئاسة، الى آخرين أبرزهم جان عبيد الذي يمكن أن يمثّل حلاً سياسياً توافقياً في رأي مجموعة كبيرة من القوى التي تقف خارج ثنائي حزب الله ــ المستقبل.
وقائع لبنان والإقليم ليست في مصلحة 14 آذار والواقعية تقتضي التنازل
بعد انطلاقة حوار حزب الله والمستقبل، تبيّن لكثيرين أن الملف الرئاسي سيكون عنواناً عملانياً، وأن الطرفين يملكان كلمات السر الخاصة بالاقليم والعالم، ويعكسان حقيقة الصراع المحتدم بين محورين ينتسب كل منهما الى أحدهما. لكن الوصول الى نقطة البحث المباشر دونها تفاهمات كثيرة، ما يجعل النقاش حول الرئاسة بنداً من ضمن سلة، وليس بنداً مستقلاً تقاس بقية الامور على أساسه.
سمير جعجع يتصرف بواقعية أن اسمه للتداول فقط، أو لتخريب ترشيح عون. وهو يدرك أن المستقبل يستخدمه ورقة في اللعب لا أكثر. وهذا أيضاً موقف السعودية وفرنسا والولايات المتحدة. عدا عن أن حزب الله لا يقبل، أساساً، بالنقاش حول اسم جعجع… ولو على سبيل المزاح.
أما العماد عون فيثق بحليفه في الحوار. وحزب الله صارحه منذ اللحظة الاولى: نريدك رئيساً للجمهورية، وسنقوم بكل ما يلزم لنجاح معركتك ولمنع أي نقاش أو تشويش، وسنرفض أي نقاش حولك، وسنحيل كل سائل اليك، ولك، أنت وحدك، القرار النهائي بالاستمرار في خوض المعركة أو التنحي لمصلحة آخر تختاره أنت. وما عليك القيام به هو السعي الى تكريس حضورك لدى الآخرين، ونحن نتفهم أي خطوة تقوم بها، تجاه كل قوى الطرف الاخر، بما فيها العواصم الاقليمية والدولية.
بدأ عون من جانبه محاولة لترتيب الوضع المسيحي، فبادر في اتجاه الخصم الرئيسي، سمير جعجع، عارضاً عليه تفاهمات على كثير من الامور التي ــ إن تحققت ــ تتيح لجعجع تبرير انسحابه من المعركة الرئاسية لمصلحة جنرال الرابية. بالطبع، لم يكن في استطاعة جعجع رفض العرض، وهو الذي يحتاج الى ملعب، ولو جانبي، لإظهار استقلالية ما عن حليفه «المستقبل». لكن قائد القوات لا يوحي على الإطلاق بأنه سيوافق على دعم ترشيح عون. كل ما يأمله هو الحصول على تفاهمات مع الاخير لاستخدامها لاحقاً، من دون أن يدفع فاتورتها رئاسياً، ما يجعل انتظار موافقته على ترشيح عون ضرباً من الخيال، إلا في حالة واحدة: تلقيه الأمر من الطرف الآخر. وعندها يمكنه التصرف بانتهازية معهودة لديه، فيعمد الى دعم عون، ويقدّم الخطوة على أنها تضحية كبيرة منه.
في هذه الاثناء، يعود اللاعبون الى الحديث عن الواقع الاقليمي، ليس لتبرير الانتظار، بل لاستخدام الخارج في الضغط داخلياً، مثل أن يقوم «المستقبل» بتكرار رفضه عون، من زاوية أنه سيتسبب للبنان بمشكلة مع الغرب ومع دول الخليج، وأنه سيكون رئيساً لقسم من اللبنانيين، علماً بأن سعد الحريري يعرف حقائق أساسية، منها:
ــ أن سعيه للوصول الى رئاسة الحكومة وتولّيه دوراً مركزياً من خلال السلطة التنفيذية، معطوفاً على حضور نيابي كبير، لم يعد ممكناً تحقيقه من دون حصول توازن داخل مجلس الوزراء. وهذا يعني أنه لن يعود الى السراي إلا برفقة الثلث المعطل، وأنه لن يكون قادراً على فرض تمثيل مسيحي داخل الحكومة وفق حسابات انتخابية غير حقيقية، وأن الحل المناسب له، والعادل لبقية الاطراف، يكون بالموافقة على تولي عون الرئاسة، لأنه يعطي المسيحيين حصة وازنة في الرئاسات الثلاث، ويسمح له بخوض معركة قيادة حكومة من دون معارك جانبية كثيرة، لأن تفاهمه مع «الرئيس القوي» سيتم بطريقة لا تستفزّ الشيعة ولا الآخرين.
نصرالله: دعمنا وصول الجنرال الى الرئاسة يمثل اقتناعاً وليس مناورة
ــ أن حزب الله على وجه الخصوص، ومعه الرئيس نبيه بري، ومعه في الاقليم سوريا وإيران، لا يناور في مسألة ترشيح عون. وذات مرة، قال السيد حسن نصرالله في مجلس مغلق إنه لا يتصرف في هذا الملف وفق حسابات تقليدية تقوم على المناورة واللعب بالاوراق، بل إنه شخصياً، ومعه حزب الله، في حالة ثقة تامة بأن العماد عون هو الرجل المناسب للرئاسة، وأن في مقدوره إدارة البلاد بطريقة تتيح استقراراً جدياً.
ــ يعرف فريق 14 آذار أن وضعه الداخلي أصعب بكثير من كل الصور وعمليات النفخ الجارية إعلامياً، وأنه غير قادر على بناء مؤسسة تنظيمية له. كذلك تعرف القوى البارزة في هذا الفريق أن المشكلات الداخلية هي التي سمحت ــ ولو عن طريق المهزلة ــ بقيام تكتل وزاري كالذي يستضيفه الرئيس السابق ميشال سليمان، إذ إن هذا التجمع، إنما يعبّر عن أزمة الثقة العميقة القائمة بين المستقبل (ومعه القوات اللبنانية) وكل القوى الأخرى المنضوية في هذا الفريق.
ــ يعرف الفريق الذي يمثله الرئيس الحريري، داخلياً وإقليمياً، أن الوقائع القائمة على الارض لا تتناسب مع شعارات كبيرة. كذلك فإنه لا يمكن لهذا الفريق خوض مواجهة قاسية في لبنان، وكما يقول الاميركيون: الغباء هو في خوض معركة تتيح لحزب الله الامساك بكل لبنان! وبالتالي، فإن الواقعية توجب على هذا الفريق التفاوض لتحصيل ما يحدّ من خسائره المتعاظمة.
بناءً عليه، تعود الامور لترمي الكرة في حضن الفريق المسيحي. وحتى إشعار آخر، يمكن لهؤلاء البحث مع العماد عون في تفاصيل وترتيبات تتيح وصوله بالتوافق الى بعبدا، وكل ما هو خلاف ذلك، مزيد من تضييع الوقت. ولبنان عام 2015 لم يعد يحتمل ميشال سليمان آخر!