أخطر ما في أزمة الفراغ الرئاسي التي بدأت قبل تسعة أشهر ان هذا الفراغ صار طبيعياً ومألوفاً، وان الجميع يعتادون وضعاً وبلداً ليس فيهما رئيس للجمهورية، وان شعوراً يزداد رسوخاً مع الأيام بأن «البلد ماشي» مع رئيس أو من دونه، والأمر سيّان إذا كان هناك رئيس للجمهورية أو لم يكن. وهذا معناه الامعان في تدمير الموقع المسيحي الاول وتهميشه والإجهاز على ما تبقى له من مكانة وهيبة والحاق الاذى المعنوي بصورته ودوره، بعد سحب الكثير من صلاحياته وسلطاته الدستورية في الطائف#0236 لكن المحزن والمقلق في الموضوع انه بدل التركيز على ملء الفراغ الرئاسي يتم التركيز على تنظيم هذا الفراغ من قبل الحكومة, وعلى كيفية إدارة الأمور والأوضاع على أساس ان الأزمة مفتوحة ولن يكون هناك رئيس للجمهورية في مدى منظور.
مما لا شك فيه ان الوضع السياسي في لبنان يمشي على وقع نشيد »امش على ما يقدر الله والكاتبو الراعي الاقليمي بيصير»، وهذا ينعكس على كل شيء في البلاد بما في ذلك العمل الحكومي، والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هل مسموح في ظل هذه الاخطار التي تعيشها المنطقة عموماً ولبنان خصوصاً ان يمضي مجلس الوزراء معظم وقته في مناكفات جانبية حول قرارات وقضايا صغيرة؟ وان يرفض وزراء التوقيع على مراسيم نكاية بوزراء آخرين وليس بدافع الحرص على المصلحة الوطنية والعامة؟
هذا هو واقع الحال بكل اسف في البلاد بحيث اننا أمام واقع حكومي استثنائي وغير طبيعي خصوصاً عندما يعطى كل وزير حق الفيتو على أي قرار او مرسوم يطرح في جلسات مجلس الوزراء او عندما يحل 24 وزيراً مجتمعين محل رئيس الجمهورية ويعتقد كل وزير انه صار رئيساً ويمارس عمله الوزاري على هذا الأساس.
وهذا كله يعطي للرئيس تمام سلام الحق بان يشكو ويتذمر ويقلق على وضع الحكومة التي استنفدت آلية عملها وتتعرض مصداقيتها وانتاجيتها للتآكل. كما يعطيه الحق من باب المسؤولية الملقاة على عاتقه في هذه الظروف الخطيرة والحساسة التي تمر بها البلاد والتي لا تتحمل اي ترف سياسي، وان يسعى إلى تصحيح هذا الوضع عبر احداث صدمة إيجابية ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وتعليق جلسات مجلس الوزراء إلى حين الاتفاق على آلية لأتخاذ القرارات واصدار المراسيم بعدما أدى ربط أي قرار بموافقة جميع أعضاء الحكومة إلى تراجع انتاجيتها وإلى إعاقة تسيير شؤون الدولة وأمور الناس.
ولكن لا يجوز تبسيط المشكلة القائمة داخل الحكومة واختزالها في آلية العمل واتخاذ القرارات، وبالتالي لا يمكن اختزال الحل بالاتفاق على آلية جديدة أيا تكن.
فالمشكلة ليست في الحكومة واسلوب عملها وانما المشكلة هي في شغور المركز الأول في الدولة… والحل يبدأ من انتخاب رئيس جديد يحظى بتوافق وطني ويكون قادراً على إدارة الأزمات والتوازنات… وعبثاً نبحث عن حلول حكومية ونهدر وقتاً وجهداً في المكان غير الصحيح ونتحرك في الاتجاه غير الصحيح. لانه لا يمكن ان تستقيم دولة مقطوعة الرأس ولا يمكن ان يستقيم حكمٌ وحكومة من دون صمام أمان وعامل توازن هو رئيس الجمهورية…
من حقنا ان تساورنا شكوك وتساؤلات بشأن رئاسة الجمهورية ومصيرها في ضوء ما تشهده من تجاهل وتجاوز داخلي وخارجي وفي ضوء ما هو حاصل من ممارسات وتصرفات توحي بأن لا مشكلة في الفراغ الرئاسي وان الحكومة تقوم مقام رئيس الجمهورية، ومن الطبيعي في مثل هذه الحال ان يرفض المسيحيون آليات حكومية جديدة غير مطابقة للمواصفات الدستورية، وتساهم في ترسيخ الوضع الشاذ في البلد وتدفع باتجاه التعايش معه والبحث عن بدائل للرئيس الغائب بدل البحث عن هذا الرئيس وإيجاده.
وإذا كان الجميع متفقين على تحديد الارهاب كخطر أول داهم، وعلى ان استراتيجية وطنية لمحاربة الارهاب هي أولى الأولويات وتتقدم على كل شيء، فليكن معلوماً ان الحكومة الحالية عاجزة عن وضع مثل هذه الاستراتيجية وليست مؤهلة لها وهي الغارقة في خلافات ومناكفات شلتها واستنفدت طاقتها، وليكن معلوماً ان استراتيجية وطنية لمحاربة الارهاب يلزمها حوار وطني جامع. والحوار الوطني الجامع لا ينعقد ولا ينطلق إلا في وجود رئيس للجمهورية وتحت رعايته وإدارته…
من هنا فانه من غير المقبول ولا الجائز ان نضيّع اتجاه البوصلة الوطنية والسياسية وان نساهم عن قصد او غير قصد في ترسيخ فراغ الرئاسة واطالته وفي تحويل الانظار عن هذه «المشكلة الرئيسية» باتجاه قضايا ومسائل جانبية متفرغة عنها وتُعد من نتائجها وافرازاتها.
وكذلك فانه من المؤسف والمخزي حقاً ان تتحول كل الجهود والاتصالات والمساعي اليوم في اتجاه البحث عن آلية جديدة لعمل الحكومة وكل ما من شأنه ان يثبّت وضعها ويطيل عمرها, وهذا وحده كافٍ لمعرفة مدى ارتباط اغلبية الافرقاء السياسيين باجندات خارجية تجعلهم واثقين بان كل الامور موضوعة في الوقت الحاضر في «ثلاجة الانتظار» حتى يقضي الله امراً كان مفعولا.
على جميع القوى والتيارات السياسية ان تعرف انه لا يكفي التمسك بهذه الحكومة باعتبار ان لا بديل لها ولا يستغنى عنها وان استمرارها هو الانجاز والهدف. وانما يجب على الجميع فك كل الارتباطات الخارجية, والتطلع الى مصلحة البلاد والعباد والتمسك بالمبدأ الذي قامت عليه هذه الحكومة وهي انها حكومة انتقالية مؤقتة تسلم الأمانة بعد انتخاب رئيس الجمهورية، وليست ابداً حكومة دائمة ومستقرة وبديلة عن رئاسة الجمهورية.
وفي الختام اقول للجميع أن الحكومات تتشكل بموجب الدستور، وهناك نص واضح وصريح، يجب على المعنيين الأخذ به وتنفيذه، كما أن «الدستور لا يمكن أن يصبح وجهة نظر يحلو لكل فريق تفسيرها على هواه ووفقا لمصالحه وإلا تعتبر تصرفاتهم مغايرة للدستور، وبالتالي تستدعي المساءلة القانونية» وان الحل الاسهل والافضل والاسرع هو في انتخاب رئيس للجمهورية بدل التلهي بطروحات جانبية.