تصدّر العنوان المسيحي في العام الحالي كل العناوين السياسية انطلاقاً من تطورين: تهجير مسيحيي الموصل، والفراغ الرئاسي في لبنان.
المسيحيون في المنطقة شكّلوا محور المواقف الدولية المنددة بتفريغ الشرق من مسيحييه، والداعية إلى تثبيت المسيحيين بأرضهم، خصوصاً بعد سيطرة «داعش» على الموصل وموجة التهجير الواسعة التي طالت المسيحيين والتي كان قد سبقها وتلاها الوضع غير المستقر في العراق عموماً وسوريا خصوصاً.
والمسيحيون في لبنان شكّلوا محور الحدث قبل الفراغ الرئاسي وبعده، حيث أن الموضوع الأبرز في العام ٢٠١٤ كان الانتخابات الرئاسية من زاويتين: زاوية وطنية تتصل بعمل المؤسسات وانتظامها والتي اختلّت بفعل الفراغ والتفريغ، وزاوية مسيحية تتعلق بغياب المسيحيين عن أبرز موقع في الدولة اللبنانية، حيث أنّ الفراغ يضعهم خارج الصورة والدور الذي اقتصر منذ ٢٥ أيار الماضي على مجلسي النواب والوزراء.
وعلى رغم أنّ كثرة المواقف التضامنية مع المسيحيين قد تعطي انطباعاً سلبياً بأنّ المكون المسيحي في حالة شديدة من الضعف، وهذا الأمر ينطبق على المسيحيين المشرقيين لا اللبنانيين، إلا أنّ هذه المواقف شديدة الأهمية إذا اقترنت بالترجمة العملية، ولم تكتف القيادات الإسلامية والمسيحية والغربية بالشجب والندب، لأنها تعكس حرصاً على أمرين: بقاء التنوّع في الشرق الذي هو حاجة إسلامية أكثر منها مسيحية، وتوفير البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحاضنة لعودة المسيحيين واستمرارهم.
وفي موازاة المواقف التضامنية مع المسيحيين برز تحرك فاتيكاني استثنائي في هذا الملف لا بد من أن يجد صداه وترجماته العملية مع الوقت، لأنّ الكنيسة الكاثوليكية عبّرت عن قلق حقيقي من هذا النزف المتواصل الذي وصل إلى حد التفريغ، ولكن المسؤولية في هذا المجال تقع على عاتق أنظمة الحكم المتعاقبة في سوريا والعراق وغيرهما ولا يجوز رَمي المسؤولية على واقع استجدّ أخيراً، لأنّ هذا التفريغ كان متوقعاً عاجلاً أم آجلاً، وتكفي العودة في هذا الإطار إلى الأرقام التي وحدها تتكلم عن أعداد المسيحيين في سبعينات القرن الماضي وعشية اندلاع الأزمة السورية، حيث تراجعت وتناقصت بشكل هائل، ما يؤشر بوضوح إلى أنّ الكلام عن أنّ الأنظمة الديكتاتورية حَمَت المسيحيين هو فقط للتضليل السياسي والإعلامي، ويؤكد على حقيقة ثابتة أن لا مستقبل للمسيحية المشرقية إلا في دول تحترم الحريات والتنوع والتعدد.
وقد يكون من غير المطلوب في المرحلة الأولى مشاركة المسيحيين في القرار السياسي في العالم العربي، لأنّ ديموغرافيتهم لا تسمح بذلك، ولكن الأساس هو في إشعارهم بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات على مستوى المواطنة، وهذا بحد ذاته، في حال تحققه، يعتبر إنجازاً تاريخياً.
وأمّا في لبنان فالوضع مختلف تماماً، لأنّ المسيحيين شركاء فعليين في القرار السياسي، ولكن على رغم سلبية الفراغ الرئاسي الذي عطّل دورهم في الرئاسة الأولى حصراً، لأنّ أدوارهم في مجلسي النواب والوزراء والحياة العامة ما زالت على حالها، إلا أنّ هذا الفراغ أعادهم إلى مقدمة المسرح السياسي، حيث تصدروا الواجهة السياسية، خصوصاً فريق ١٤ آذار بكلّ مكوّناته المسيحية والإسلامية، وتحديداً الدكتور سمير جعجع الذي شكل ترشيحه للرئاسة رافعة فعلية للعنوان الرئاسي.
وفي السياق نفسه أيضاً، وعلى رغم سلبية الفراغ أيضاً وأيضاً، إلا أنّ المواجهة القاسية التي خيضَت من أجل انتخاب رئيس جديد أعطت هيبة للرئاسة وهالة ودوراً، ويبقى من مسؤولية الرئيس العتيد الاستفادة منها تعزيزاً لدوره الوطني ولموقع رئاسة الجمهورية.
قد تكون حاجة المسيحيين لرئيس في بعبدا أساسية، إلا أنّ عدم انتخاب رئيس لا يعني أن هناك حرباً على المسيحيين من بوّابة الرئاسة، وذلك لسببين: لأنّ الطرف الأساسي المعطل هو العماد ميشال عون، والسبب الثاني لأنّ الحرب هي على كل مكوّن سيادي واستقلالي. وبالتالي، كل المخاوف من أنّ الرئاسة لن تعود للمسيحيين هو تضليل ووهم.
وليس تفصيلاً أنّ كل الحراك الديبلوماسي الدولي يتركز على انتخاب رئيس جديد، من واشنطن إلى موسكو وباريس والرياض وطهران والاتحاد الأوروبي والفاتيكان. وإذا كانت أولوية هذه الدول الاستقرار في لبنان، غير أن هذه الأولوية، بالنسبة إليهم، تتحصّن بانتخاب رئيس جديد، في إشارة إلى أهمية موقع الرئاسة الأولى في المعادلة الوطنية اللبنانية.
ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إغفال أنّ جزءاً مهماً من هذا الحراك تركّز على العنوان المسيحي من الباب الرئاسي لجهة ضرورة انتخاب رئيس لتوجيه إشارة ثقة واطمئنان إلى المسيحيين في لبنان والعالم العربي بأنّ هناك حرصاً دولياً على وجودهم وحضورهم السياسيين.
يستحق المسيحيون في لبنان والعالم العربي لقب العام ٢٠١٤ بامتياز وجدارة، هذا اللقب الذي استحقّوه بدمائهم وتضحياتهم ونضالهم من أجل البقاء في أرضهم والحفاظ على دورهم السياسي ورسالتهم المسيحية، وكل الأمل أن يستحقوه مستقبلاً بعيداً عن ضريبة الدم والتهجير والإبعاد والإقصاء والتفريغ، وذلك بفعل دورهم المنتظر في إعادة الروح إلى شعوب هذه المنطقة من أجل بناء دول مدنية أولويتها الإنسان وحريته.