انا من الصحافيين القلائل الذين كانوا في عزّ الوصاية السورية على لبنان، يطالبون بتنفيذ اتفاق الطائف بجميع متدرجاته، وفي مقدّمها، الغاء الطائفية، واجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، وتشكيل مجلس شيوخ يضم جميع المكوّنات الطائفية والمذهبية، بما يعني، نقل لبنان من دولة ذات نظام طائفي الى دولة مدنية، قانوناً ودستوراً.
النظام السوري كان يرفض تنفيذ اصلاحات تخفف من حدّة الطائفية في لبنان، لأن اللعب على وتر الخلافات الطائفية والمذهبية، ورقة رابحة، يستطيع النظام الامني اللبناني ـ السوري من خلالها لعب دور «الجوكر» القادر على كل شيء.
اصحاب النيّات الحسنة من اللبنانيين، راهنوا على تطبيق ما لم يطبّق بعد من اتفاق الطائف، بعد الانسحاب السوري من لبنان في العام 2005، لكن الذين حالفوا السوريين طوال 15 سنة، واستفادوا حتى التخمة من وجودهم، كان لهم رأي آخر، ونحن اليوم بعد 12 سنة على خروج السوريين، نسير بقدمين سريعتين الى هاوية محققة، لأن من تعوّد على الأخذ اثناء الوصاية السورية، لا يريد ان يغيّر عادته، ويسارع الى طرح شراكة حقيقية بينه وبين الذين اضطهدوا وسجنوا وقتلوا وتم نفيهم، بل يلجأ الى اسلوب عجيب غريب في قلب الحقائق، بحيث يصوّر من يطالب بالشراكة والحقوق، وكأنه هو من «يتسلبط» على حصص الغير، وهو من يثير الغرائز الطائفية، وهو من يهدد السلم الاهلي، وهو من يجرّ البلاد الى المأزق.
جميع من تشاركوا في أكل الجبنة ايام الوصاية السورية، يسارعون الواحد تلو الآخر، الى وضع مشاريع قوانين للانتخابات النيابية تكرّس احتفاظهم بأكثر من نصف عدد المقاعد النيابية المخصصة للمسيحيين، ويفلسفون ذلك، بأن المصلحة الوطنية والانصهار الوطني، والتعايش المسيحي – الاسلامي، يقتضي ذلك، وكثيرا ما يلمحون، وهم يشددون على مقولة «وقفنا العدّ» والمساواة في الحقوق والمقاعد، الى ان عدد المسيحيين لم يعد يسمح لهم عمليا، بنصف عدد النواب، دون ان يرف ّ لهم جفن بأنهم ما زالوا يضعون العراقيل بوجه مئات ألوف اللبنانيين المنتشرين، ومعظمهم من المسيحيين، الذين هجّروا اولا، وهاجروا ثانيا، اضافة الى مئات الالاف الذين تم تجنيسهم خلافا للقوانين ولمبدأ الشراكة المسيحية – الاسلامية.
***
سمعت امس، على احدى القنوات التلفزيونية، احد المثقفين من قوى 8 آذار يحاضر في الوطنية والعيش المشترك، وان ضمانة المسيحيين في لبنان، ان ينتخب المسلمون مرشحيهم الى مجلس النواب، وليست الضمانة ان ينتخبهم الناخبون المسيحيون، وفي هذا القول كثير من «تربيح» الجميل في معرض الاشادة بالنسبية الكاملة التي يخشاها المسيحيون، ومع الاسف، من كانت تحاوره، لم تسأله اين كانت هذه الضمانة، عندما ابعد العماد ميشال عون مع العديد من انصاره الى خارج لبنان، ولوحق انصاره واعتقلوا وضربوا، واين كانت عندما ركبت الملفات للدكتور سمير جعجع وادخل السجن واعتقلوا المئات من انصاره وعذّبوا، وبعضهم استشهد تحت التعذيب، واين كانت عندما سدّت ابواب الادارة العامة امام المسيحيين، وما زالت.
في هذه الايام يسمع المسيحي الكثير من الكلام الذي يعجبه، وعندما يرى الافعال يتعجب، وللذين يستشهدون اليوم بكلام البطريرك بشاره الراعي، الداعي الى اعتماد القانون الانتخابي النافذ، اي قانون الستين، وعدم اللجوء الى التمديد، نسألهم اين كانوا عندما بحّ الراعي وهو يصرخ طالبا انتخاب رئىس للجمهورية، دون ان يعبأ به احد من الذين يستشهدون به الان، قليلا من الذاكرة.