الأفضل لرافضي الفدرالية اليوم أن يتريَّثوا في رميِها بالنعوت ورشق أصحابها بالاتهامات. فقد لا يكون بعيداً يومٌ يصبح فيه بعضهم مبشِّراً بها، عندما يقع بين خيارين: إما إنهيار الكيان وإما أحد أنواع الفدْرَلة.
حتى الآن، «حزب الله» صامِتٌ، ولا يبدي رأيه في «المزاج الفدرالي» الذي باح به حليفه المسيحي النائب ميشال عون. الأمر يذكِّر بصمته إزاء مشروع «اللقاء الأورثوذكسي». إنه في الحالين «صمتٌ خلاّق» يطلق العنان للتفسيرات المتناقضة: العونيون مقتنعون بأنه «نعم» مستورة، وآخرون يجزمون أنه «لا» مكبوتة.
البعض يفضِّل «القراءة الخبيثة»، ويقول: إنّ «الحزب» هو الذي يقف وراء طرح عون. وهو ربما مناورة أو مفتاح للتسلُّل إلى المؤتمر التأسيسي. لكنّ هذه القراءة قد تكون متسرِّعة: ألا يمكن أن تكون الفدرالية ورقة مطويّة تتقاطع عليها مصالح عون و»الحزب»؟
«الأورثوذكسي» كان عملية فاشلة للتسلّل الفدرالي. ولكن، في موقف عون الأخير دخولٌ جريء في صلب الموضوع. فـ«الجنرال» لم ينزلق إليه انزلاقاً في سياق حواره مع «الجمهورية». والذين يقولون إنّ طرحه الفدرالي هو ردٌّ على فشله في بلوغ بعبدا ينطقون بنصف الحقيقة.
وثمّة اعتقاد بأنّ عون، لو وصل إلى القصر، كان سيفتح باب التغيير من موقعه هناك، وعلى طريقته. وهذا ما يخيف الحلفاء والخصوم معاً. وفي تقدير البعض أنّ عون، عندما شنّ حربه على «القوات» في العام 1989، لم يكن فعلاً ضدّ مشروعها الفدرالي بل كان يطمح إلى قيادته بنفسه. وأما اليوم، فطرْحُ عون لا يرتبط بالطموحات الشخصية الصغرى بل بالطروحات الاستراتيجية الكبرى، المرهونة بالتحوّلات الإقليمية.
وعندما يعلن عون أنه مع الفدرالية، تكون 90% من القوى المسيحية معها. فـ«القوات» سبّاقة إليها تاريخياً، والقيادة الكتائبية الجديدة معروفٌ طرحها… وثمّة نُخَبٌ مسيحية تتبنّى أفكاراً تتسع فيها اللامركزية السياسية لتصل إلى الفدرالية.
ويجدر التنويه بأنّ النظام اللبناني فدرالي، طائفياً ومذهبياً، ولكنّ فدراليته غير جغرافية. وجاء الطائف ليكرِّس الفدرالية، ولكن مبتورةً ومشوَّهة ومزوَّرة. والكثيرون يعلنون اليوم رفضهم للفدرالية لأنهم يتنعَّمون بالتنفيذ المزوّر لفدرالية الطائف، ويريدون الوصول بها إلى السيطرة الكاملة.
فالفدرالية السليمة تنتزع من هؤلاء مكتسباتٍ أخذوها بالقوة، وخصوصاً بقوة دمشق، بعدما جرى إبعاد القيادات المسيحية نفياً وسجناً وكوفئت زعامات سنّية وشيعية ودرزية على مسايرتها الاحتلال السوري، فمُنِحت الامتيازات الشخصية والطائفية.
اليوم، يجتاح الكيانات الشرق أوسطية ما هو أسوأ من الفدرالية: دويلات دينية رجعية وقتال بلا هوادة واضطهاد للأقليات. وباتت الفدرالية في العراق وسوريا واليمن حلماً لاستعادة السلام. فما ذريعة المحور الإقليمي العامل للفدرالية هناك، أو للتقسيم والشرذمة، كي يرفضها هنا؟
في الأوساط المسيحية والدرزية شعورٌ بأنّ المحوَرَين الإقليميَين الشيعي والسنّي يرفضان الفدرالية في لبنان لأنّ كلاً منهما يطمح إلى حكمه بكامله مركزياً، إذا انتصر حلفاؤه في المنطقة.
وأما «حزب الله» فيترك الفدرالية ورقة احتياطية. وإذا تفكَّكت سوريا وانحسر نفوذُ الأسد جغرافياً، وفقَ المتوقّع، فسيفضِّل «الحزب» الاحتفاظ بسلاحه ونطاقه الجغرافي، وسيتحصَّن بمحاذاة الأسد. عندئذٍ، سيكون «الحزب» قد استدعى الفدرالية أو ما هو أكثر منها بكثير إلى لبنان.
في هذه الحال، سيميل «الحزب» إلى إعادة تأسيس لبنان وفق صيغة تلائم وضعيَّته الإقليمية. وكما لوَّح عون بـ«الأورثوذكسي» ثمّ طرح الفدرالية، فـ«الحزب» لوّح بالمؤتمر التأسيسي وسيصل به إلى الفدرالية في لحظة سورية معيّنة.
في الزمن الديكتاتوري عراقياً وسورياً، كانت الفدرالية ممنوعة لأنها تناقض الديكتاتورية. واليوم باتت الفدرالية حلماً حضارياً لبلدين غارقين في الدم بلا أفق. وأدرك كثيرون أنّ الفدرالية ليست تقسيماً، وأنها خيارٌ يستلزم نضوجاً ثقافياً وحداثياً، وخروجاً من التسلُّط والاستئثار والجاهليات الجديدة.
المسيحيون يتغيّرون في لبنان. أهوال «الربيع العربي» تغيِّرهم.
وباتوا مضطَرين إلى «بقّ البحصة»: إذا كان ممكناً إصلاح النظام المركزي وبعيداً من هيمنة الطائفيات والمذهبيات وصراعاتها التسلطية، فلا حاجة إلى الفدرالية. وإذا كان النظامُ المركزي يقود إلى العلمنة أو الدولة المدنية، فلا حاجة إلى الفدرالية.
ولكنّ الفدرالية «النظيفة» أفضل بكثير للعيش المشترك من النظام المركزي المزوَّر. وإذا كانت الفدرالية تقسيماً، فـ»التقسيم» في سويسرا أفضل بكثير من الوحدة الإندماجية في سوريا. ولا يحقُّ لمَن يمارس الهيمنة المركزية، بالسلاح والنفوذ الإقليمي وغلبة العدد، أن يرفض الفدرالية.
مسلمو لبنان ما زالوا زهرة مسلمي الشرق الأوسط والعالم العربي. لكنّ ذلك لا يرفع القلق عن المسيحيين والدروز. فعندما يصبح سنّة الإقليم مكرَهين على الاختيار: أيهما أفضل، «داعش» أم «النصرة»، وعندما يصبح خيار الشيعة انتصارَ ولاية الفقيه، فيما مسيحيو العراق وسوريا يُهجَّرون، وعندما يتصارع البعض لضمّ لبنان إلى دولة الخلافة أو امبراطورية فارسية أو عثمانية، يصبح قليلاً من المسيحيين أن ينادوا بطرح حضاري ويحترم الكيان كالفدرالية.
فهل للمزايدين جرأة القتال للبنان المركزي؟ أو على الأقل، هل لأحد الجرأة لطرح أيّ منطق آخر؟