يُدرج رئيس «تكتّل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون كل تحرّكاته التصعيديّة، من رفضه حضور جلسات إنتخاب رئيس للجمهورية في ظلّ الواقع الحالي، مُروراً برفض المُشاركة في جلسات «تشريع الضرورة» في مجلس النوّاب ما لم يتمّ البحث في مطالب مُحدّدة يرفعها، وصولاً إلى رفض البحث في أيّ بند في خلال جلسات مجلس الوزراء ما لم يتمّ أوّلاً حسم موضوع التعيينات الأمنيّة… في خانة واحدة، ألا وهي «إستعادة حقوق المسيحيّين»، علماً أنّ للتيّار الوطني الحُرّ رأياً ثابتاً منذ عقود بأنّ المسيحيّين خسروا الكثير من حقوقهم بفعل إتفاق الطائف. فهل هذا صحيح؟
بحسب نائب سابق له مشهود له بالمعرفة القانونيّة إنّ الحُكم في لبنان في مرحلة ما قبل الطائف، هو غير الحُكم في لبنان في مرحلة ما بعد الطائف. وأوضح أنّ هذا الحكم كان أقرب إلى الحكم الرئاسي، حيث كان رئيس الجمهورية المسيحي والماروني يملك السلطة الإجرائية التي صارت بعد الطائف بيد مجلس الوزراء مُجتمعاً. وكان الرئيس قادراً على إقتراح القوانين لكنّه لم يعد يحقّ له ذلك بعد الطائف، وكان أيضاً قادراً على دعوة مجلس النواب إلى عقد إستثنائي، ليصير بعد الطائف مُلزماً بالإتفاق مع رئيس الحكومة على الدعوة لأي عقد إستثنائي. وأوضح المرجع القانوني نفسه أنّه كان يحقّ لرئيس الجمهورية اللبنانيّة التفاوض وعقد المعاهدات الدَوليّة وإبرامها من دون الرجوع لأي جهة، لكنّه صار بعد الطائف مُلزماً على التنسيق مع رئيس الحكومة، علماً أنّ أيّ إتفاق لم يعد يُعتبر مُبرماً إلا بعد موافقة مجلس الوزراء.
وأشار المرجع نفسه إلى أنّ من بين الصلاحيّة الأبرز التي جرى سحبها من رئيس البلاد في جمهورية ما بعد الطائف، مسألة تعيين الوزراء وتسمية أحدهم رئيساً لمجلس الوزراء والقدرة على إقالتهم أيضاً. وأوضح أنّ تسمية رئيس الحكومة تتمّ اليوم بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، إستناداً إلى إستشارات نيابيّة مُلزمة. وأضاف: اليوم، يُصدر رئيس الجمهورية بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول إستقالة الوزراء أو إقالتهم.
وذكّر النائب السابق المشهود له بالمعرفة القانونيّة أنّه قبل إتفاق الطائف كان يحق لرئيس الجمهوريّة أن يتخذ قراراً، مُعللاً بموافقة مجلس الوزراء، بحل مجلس النوّاب قبل إنتهاء عهد النيابة، بينما اليوم بإمكان رئيس الجمهورية الطلب إلى مجلس الوزراء حل مجلس النوّاب قبل إنتهاء عهد النيابة في حالات مُحدّدة فقط، وفي حال رفض المجلس لذلك يسقط الطلب. ولفت إلى أنّه من بين الدلائل الواضحة على ضعف سُلطات الرئيس في مرحلة ما بعد الطائف، أنّ مُطلق أيّ وزير يستطيع عبر رفض التوقيع على أي مرسوم أن يوقف المسار القانوني لهذا المرسوم، بينما إعتراض رئيس الجمهورية على أي مرسوم يسقط مع مرور الوقت بحيث يُصبح المرسوم نافذاً بعد فترة قصيرة بمعزل عن إرادة الرئيس!
وبحسب مصادر سياسيّة مُطلعة إنّه لا داعي للمقارنة بين صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية في مرحلتي ما قبل إتفاق الطائف وما بعده، لأنّ الفوارق واضحة وساطعة، ولأنّ ليس سرّاً أنّ الكثير من صلاحيات الرئيس المسيحي الماروني ذهبت إلى مجلس الوزراء مجتمعة، وبعض هذه الصلاحيات باتت مربوطة برئيس الحكومة المُسلم السنّي. لكنّ هذه المصادر ذكّرت بأنّ هذا الأمر كان بمثابة التضحيّة الضرورية في نهاية حقبة التسعينات من القرن الماضي، لطيّ صفحة الحرب اللبنانية بكل مآسيها وفظائعها. وأضافت أنّ إتفاق الطائف عبّر في حينه عن توازن القوى الذي كان سائداً على الساحتين المحلّية والإقليميّة والدولية، بعد 15 سنة من الحرب الداخلية والتي إتخذت في بعض مراحلها وجه الحرب الأهليّة، وحتى وجه الحرب الطائفية بين مسيحيّين ومُسلمين، مشيرة إلى الخلل الكبير الذي لحق بهذا التوازن بعد الحرب التي أطلقها العماد ميشال عون في 14 آذار 1989 لتحرير لبنان من الوجود السوري العسكري فيه، من دون أن تُحقّق أهدافها. وتابعت المصادر نفسها أنّ هذا الإتفاق شكّل آنذاك نقطة إلتقاء بين نفوذ ومصالح كل من سوريا والسعودية والولايات المتحدة الأميركية، على مستوى المنطقة ككل، وعلى الساحة اللبنانية بالتحديد، عشيّة إنطلاق مفاوضات سلام إسرائيليّة – فلسطينيّة وأخرى إسرائيليّة – عربيّة غير مباشرة.
وبالنسبة إلى إمكان أن يستعيد المسيحيّون الحقوق والصلاحيات التي كانت مُوكلة إليهم قبل إتفاق الطائف، رأت المصادر السياسيّة المُطلعة أنّ هذا الأمر بات بعيد المنال بحكم ترسيخ الأمر الواقع الجديد على مدى ربع قرن. وأضافت أنّه في خلال هذه الفترة الزمنيّة الطويلة نسبياً، زاد الخلل الديموغرافي بين المسيحيّين والمُسلمين، بحيث صارت المُعادلة العدديّة للبنانيّين مقسومة بين ثلث مسيحي في مقابل ثلثين من المسلمين، بشكل لم يعد من الممكن العودة إلى زمن ما كان يُوصف باسم «المارونية السياسيّة»، يوم كان كل من رئيس الجمهورية وقائد الجيش ومدير جهاز الأمن العام بيد المسيحيّين، والموارنة بالتحديد، مع صلاحيّات كاملة. ورأت هذه المصادر أنّ الدعم النظري لمطالب العماد عون من قبل بعض الجماعات السياسيّة المُسلمة الفاعلة لبنانياً، يدخل في سياق الدعم السياسي للجنرال والمناكفات السياسيّة لخصومه، لكنّ من غير المُحتمل تحويل هذا الدعم إلى نصوص دستوريّة ثابتة، لأنّه إذا كان العماد عون متحالف سياسياً مع هذه القوى اليوم ولا مُشكلة في منحه صلاحيات واسعة، فإنّ لا شيء يمنع أن يصل مسيحيّون آخرون إلى أعلى المناصب في المُستقبل، وعندها ستكون أيّ تعديلات قانونية لصلاحيات رئيس الجمهورية بيد هؤلاء.
وختمت المصادر السياسيّة المطلعة نفسها بالقول إنّ إستعادة المسيحيّين لما خسروه من صلاحيّات منذ إتفاق الطائف حتى اليوم لم يعد وارداً، لأنّ التوازنات الداخليّة تغيّرت كليّا، ولأن الصراع السياسي والأمني الإقليمي، والذي يأخذ في بعض أوجهه منحى مذهبياً بين السنة والشيعة، يجعل من صلاحيات المسيحيّين في لبنان مُجرّد تفصيل هامشي لا يُقدّم أو يؤخّر في هذا الصراع، ولأنّ الإهتمام الدَولي بحقوق الأقليّات في الشرق الأوسط، ومنها بطبيعة الحال الأقليّة المسيحيّة، بات معدوماً! وبرّرت هذه المصادر إصرار العماد عون على المواجهة حتى النهاية في ظلّ هذه الوقائع والحقائق، بالقول «إنّها آخر معاركه، ولم يعد يملك ما يخسره»!