تتهاوى المواقع المسيحية في الدولة يوماً بعد يوم، وتفقد هيبتَها وتأثيرَها على القرار السياسي بسبَب الفراغ الذي يُطاول بعضَها من جهة، وبفعلِ عدم تأمين الأحزاب المسيحية الفاعلة مظلّةً سياسية للأشخاص الذين يَشغلون هذه المناصبَ من جهة أخرى.
تُواجِه الأحزاب المسيحية صعوبة في الشرح لجمهورها عن مستقبلهم في لبنان والشرق، وما هي خطّة الإنقاذ التي تمتلكها. ويحاول المسيحيّون المشاركة في لعبة الكبار في المنطقة، لكن بعقلية «المخترجيّة» أو «شيخ الصلح» في الضيعة، ينظرون إلى السياسات العالمية ويَسعون إلى فتح أوتوسترادات في العلاقة مع دمشق وطهران والرياض وباريس وواشنطن وموسكو، لكن أوتوستراد جونية لا يتَّسع لأكثر من سيارتين، وكأنّ هذا هو قدَرهم حتى بعد العام 1988.
يُعبّد المسيحيون الطريق مع الدوَل التي كانت من ألدّ خصومِهم بالأمس، لكنّ الطريق من المدفون مروراً بساحل البترون والكورة وصولاً إلى بشرّي ومنها إلى إهدن مليئة بالحفَر والأفخاخ على أنواعها كافّة.
كلّ النداءات التي وجَّهتها قيادة الجيش وبقيّة الأجهزة الأمنية إلى المسيحيين للالتحاق بالسلك العسكري والخروج من ترَسّبات فترة الاحتلال السوري، لم تلقَ آذاناً صاغية.
فالصراع المسيحي هو على القيادة بينما تغيب القاعدة عن حساباتهم السياسيّة واليوميّة. ومع ارتفاع منسوب الخوف من تمَدّد النيران السورية إلى الداخل اللبناني وتهديد مناطق وبلدات الأطراف، يَظهر الجيش حامياً وحيداً للبنان واللبنانيين، فقرارُه ليس معطّلاً مثل العام 1975، حيث اضطرَّ المسيحيّون للتسلّح والمقاومة للحفاظ على وجودهم.
السُنّة والدروز مع الجيش والشرعيّة، والشيعة لا يعارضونه، فيما معظم خطابات القادة المسيحيين تتمسّك بالشرعية، ولكن من دون ترجمةِ ذلك تطوّعاً في السلك العسكري، فيما تَعلو الصرخة لاحقاً من اختلال التوازن في الإدارات وتغييب العنصر المسيحي.
يدعو الشارع المسيحي، «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، إذا كانت نواياهم صافية، إلى إعادة المسيحيين إلى الدولة وتأمين المظلّة السياسيّة لهذه العودة المهمّة. فلا يكفي التوازن في الفئة الأولى لتصحيح التوازن والخَلل، بل يجب أن يترافقَ مع عودة القاعدة إلى مكانها الطبيعي، وممارسة وظيفتها، خصوصاً أنّ هناك بلدات مسيحيّة في الأطراف تحتاج إلى فرَص عمل، لكنّها لا تلقى اهتماماً من الأحزاب المسيحيّة لأنّها ساقطة انتخابيّاً، وبعيدة عن جبل لبنان وأقضية الشمال المسيحي.
فأيّ قائد عسكري مهما بلغَ من القوّة، لا يستطيع تنفيذَ خططِه وقراراته إذا لم يكن لديه جيشٌ على الارض، لذلك على الزعماء المسيحيين تقوية شعبِهم، واقتران الخطاب السياسي بعودتِهم إلى الدولة.
إضافةً إلى تصحيح الخَلل الوظيفي، يبرز على الساحة المسيحيّة ما أعلنَه مراراً وتكراراً رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع بأنّه اتّفقَ و»التيار الوطني الحر» على عدم التشريع قبل إدراج بندَي قانون الانتخاب واسترجاع الجنسية للمغتربين، على جدول أعمال أوّل جلسة تشريعيّة. والسؤال الذي يطرح نفسَه: إذا كان «القوّات والتيار» متفقَين على استعادة الجنسية، فهل هما متّفقان على أيّ قانون انتخاب يريدان، وإذا قال لهما الشريك المسلِم «هاتوا» ما عندكم، فأيّ قانون انتخاب سيقدّمان، أهوَ المشروع «الأرثوذكسي» أو القانون المختلط الذي اتّفقَت عليه «القوات» مع تيار «المستقبل» والحزب التقدّمي الاشتراكي؟ في وقتٍ يبقى الاحتمال الأكبر أنّهما لا يملكان مشروعاً مشترَكاً يؤمّن صحّة التمثيل المسيحيّ وفق ما نصَّ عليه «اتّفاق الطائف»، أي 64 نائباً لا ينتخبون منهم اليوم أكثر من 20 بأصواتهم.
إتّفقَ المسيحيون سابقاً على قانون انتخاب ورفَضَه الشرَكاء في الوطن، فيما كاد مشروع استعادة الجنسية واقتراع المغتربين أن يؤدّي إلى حرب أهلية في فترات سابقة.
كلّ هذه العَراضات المسيحية لن تؤثّر على مسار الأحداث، لأنّه عندما يتّفق السُنّي والشيعي، سيُنتخَب رئيس للجمهوريّة، ويُقرّ قانون انتخاب لا يراعي مصالحَ المسيحيين، وسيَسير التشريع بلا قانون الجنسيّة، وعندها يكون المسيحيّون قد كبَّروا الحجر لكنّهم أصابوا أنفسَهم مجدّداً… باليأس والكآبة، والندبِ على دورٍ فقَدوه ولن يعودَ إذا استمرّت هذه العقليّة.