الليلة يولد يسوع والطغيان دوماً إلى زوال
وبعد الضيق يأتي الفرج… فها هو الميلاد، ميلاد الطفل يسوع، يحلّ هذه السنة، سنة 2024، حاملاً معه كثيراً من الأمل ويقيناً بأن ما بين صخر وصخر ينبت الزهر. فالدهر يا جماعة غير مخلّد. ومن ضاقت به الحياة حبذا لو كان يعلم ما له عند الله لبكى فرحاً. فها هو الطفل يسوع يولد الليلة حاملاً أجمل هدية، هدية الأمل بأنّ الغد لا بُدّ أن يكون أفضل و”أن الله يأتي بالفرج عند انقطاع الأمل وانعدام الحيل”. وكيف لا، ونحن نحتفل اليوم بسقوط طاغية ومناداة مقموع رأى النور للتوّ بعد عتمة شديدة: حريّة حريّة حريّة… فهل علينا بعد هذا الاستسلام؟ يسوع يولد الليلة. والمسيحيون المشرقيون ليسوا انهزاميين. إنهم جماعة. إنهم الخميرة في العجين في هذا الشرق الذي انقلب “فوقاني تحتاني”. إنه يتغيّر. فلا تخشوا من التغيير بل اعتنقوه. ثقوا بأنفسكم أيها المسيحيون. وصلوا. صلوا الليلة كثيراً. حين نزل ربّنا على سدوم وعمورة قال: أعطوني عشرة مؤمنين كي أخلّص المعمورة. هنا، في هذا الشرق ولبنان أكثر بكثير. ولد يسوع. هللويا.
هناك من يصرّ على إخافتنا من إرهابٍ آتٍ، من قتلٍ يتجدد على الهوية، زارعاً الخوف في كلِّ الجنبات. وهنالك من يُكرر ويزيد: المسيحيون لن يكونوا بخير. إلى هؤلاء نقول، وهل كان المسيحيون بخير؟ هل تريدونهم أهل ذمة يأكلون ويشربون ويقولون للطاغية: أمرك سيدنا، ليكتب لهم العمر المديد؟ يا “هؤلاء” لا، لم- ولن- يتمكن المسيحيون من بناء حياتهم على خوف. إنهم قيمة يحددونها بأنفسهم. أتركوهم يحلمون. الحلم حدّ أدنى من الإيمان بالوجود. الموارنة هم من أسسوا للبنان الذي شكّل أول دولة مدنية في هذا الشرق تحترم حرية المعتقد. المسيحيون- في لبنان وفي الشرق- بطبيعتهم أحرار.
يسوع المسيح أوّل الثوار على هذه الأرض يولد مع انتصاف الليلة. يسوع، يا إلهي، كم أنت كريم. ثقوا أن الله، مصدر الحبّ، موجود وكلما كبُر في حياتنا صغر كل شيء. كم من ثعلب يتمادى اليوم في تخويف الدجاجة والوقوف دون تمكين الفراخ من التجمع تحت جناحيها. وكمّ من سلطة منسوبة ومتسلط بلا كرامة. المسيحيون كانوا ويستمرون ضدّ إبليس، مثلما امتلك يسوع من قبل الجرأة المدفوعة بقوّة الحقيقة والتجرد الحرّ والإرادي وهذه الجرأة سمحت له أن ينعت هيرودس بالثعلب لأنه تمادى بالظلم والكفر والفساد والإجرام وعبادة الشهوات والسفاهة. هكذا أنتم، تشيرون اليوم، كما هتفتم دائماً، ضدّ نظام الأسد: هذا هو هيرودس. هذا هو الثعلب إبليس. فهل يخافون اليوم بعد هروبه في ليلة ظلماء؟
لا، لن يخاف المسيحيون. حقّهم أن يفرحوا بزوال الظلم. فاتركوهم يفعلون وهم يرون الظالم، الذي قتل واستباح العرض والأرض والإرادة، يزول. المسيحيون أهل هذا المشرق. فها هو غبريال غريب وكارلوس غصن ويوسف شاهين وكارلوس سليم ودونا شلالا ومايكل دبغي وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وكارلوس منعم ويوسف بيدس ونجيب ساويروس وإيلي صعب… المسيحيون طاقات في الاقتصاد وفي الشعر والنثر وفي الطب والإبداع. المسيحيون- كانوا ويبقون- قوة وعطاء وحضوراً. ماذا يعني أن نسمع أصواتاً، في الداخل اللبناني، تقول: انتبهوا أيها المسيحيون من بعبعٍ آتٍ سيأكلكم لحما ويرميكم عظاماً؟ وماذا يعني أن ننتبه؟ هل هذا يعني أن نتقوقع؟ هل يعني أن نبحث عن مشروع خاص ونتخلى عن مشروع الدولة؟
ثقوا بأنفسكم وبيسوع
يوم سقطت الخلافة العثمانية أسقطونا في رعب المصير فأثبتنا أننا نملك كل معطيات القوة المستمدة من قدرتنا على نحت الصخور والنقش في الحجر ساعة نشاء. فلنستعدّ بالثقة بالنفس، بوجودنا، بدورنا، بقدراتنا، على أن نعمل بكدٍ وجهد من أجل تطبيق الدستور واللامركزية الموسعة. علينا أن نتذكر دائما لماذا وجد لبنان عام 1926؟ هل وجد كي يكون مثل كل الدول الأخرى؟ طبعاً لا. على لبنان أن يكون الدولة المثال، دولة الحريات، دولة المواطنية، دولة العيش المشترك، أما الإحباط الذي يعممه البعض فهدفه تيئيس المسيحيين. الإحباط تيئيس. الإحباط يُحبِط واليأس فيروس يتمدد. لكن ثمة مسائل نلمسها لمس اليد. ثمة مسيحيون بدأوا يتنازلون عن أوطانهم العربية ويوضبون أمتعتهم ويرحلون. مسيحيو العراق تدنى عددهم من مليون ونصف عام 1999 إلى أقل من 400 ألف اليوم. سبعة في المئة من سكان سوريا كانوا مسيحيين هاجر أكثر من نصفهم إلى بلاد العالم. مسيحيو مصر الذين يمثلون 9 في المئة من مجموع عدد السكان يملكون أكثر من ثلاثين في المئة من المقومات الاقتصادية في البلد وهاجر منهم نحو عشرين في المئة. عدد المسيحيين في الشرق يتضاءل. عدد المسيحيين المحبطين في لبنان زاد وهاجر منهم من هاجر وطلّ نجيب ميقاتي ليقول: عدد المسيحيين أصبح في لبنان- لبناننا- 19 في المئة. فهل مردّ هذا إلى أن مواطني الطوائف الأخرى أكثر قدرة على الإحتمال؟ هل السبب في امتلاك زعماء تلك الطوائف مشاريع خاصة تجذب قواعدهم؟ المسيحيون أولاد الدولة. ينادون بها. يطالبون بها. هي مشروعهم. قمعوا كثيراً. لوحقوا. سجنوا. لكنهم، في كلِّ مرة، كانوا يقومون من جديد. فلماذا الإصرار دائماً على إخافتهم؟ نظام الأسد اندثر. المشاريع الاستقوائية ضعفت. فليبادروا اليوم إلى الفرح متيقظين موقنين أن دورهم أن يصمدوا، أن يحلموا. أن نحلم، أن نعود ونحلم من جديد بلبنان الذي نريد. انتشرنا في أربعمئة عام من الحكم العثماني من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب، وحدود الانتشار المسيحي أصبح حدود لبنان. التصقنا في الأرض. أعطيناها فأعطتنا. ولم يُعلن لبنان من الصفر في 1926. صدّرنا أساتذة معاهد وأطباء ومهندسين في زمن كانت فيه الأمية ضاربة في الشرق الأوسط. والآن، في زمن العولمة والمعلوماتية والحريّة المستعادة، يمكننا أن نبدع بعد وبعد. الإبداع ثروة المسيحيين.
نحن المسيحيين، مررنا في ظروف جدّ صعبة. نعترف. لكننا قيمة نحددها بأنفسنا. فلنحلم. الحلم حدّ أدنى من الإيمان بوجودنا. الموارنة هم من أسسوا لهذا البلد الذي شكل أول دولة مدنية في هذا الشرق تحترم حرية المعتقد. رأى هؤلاء حتى مئة سنة إلى الأمام فماذا نفعل نحن اليوم؟ لبنان قدّم، على الرغم من “تعتيره”، نموذجاً للحرية. نحن في طبيعتنا أحرار. وليس هناك أمام كل من يثورون اليوم وينشدون التغيير أفضل من النموذج اللبناني. مررنا في ظروف جد قاسية. لا نخاف من التشدد، أي تشدد، لأنه سيعود ويزول. لو خفنا في بداية الحرب اللبنانية لكان انتهى لبنان. علينا أن نعي أكثر قيمة الإنسان وقدرته على الإبداع والخلق. نحن نُكثر من استخدام كلمات: “انشاالله” و”إذا الله أراد” وهذا اتكال مبالغ – ربما – على السماء. علينا أن نتحرك نحن لا أن نستسلم في انتظار أن يأتينا حل ما من مكان ما.
مسيحيو سوريا: لا تخافوا
مسيحيو سوريا وضعوا “شجرة الميلاد” ويحتفون الليلة بولادة يسوع. لكن، هناك من يصرّ على إخافتهم- وإخافتنا- من “بعبع” جديد. فهل ننخرط في مشروع “التخويف”؟ نعرف أن خروج هؤلاء من توجسات عمرها خمسة عقود ليس بهذه البساطة. فهل على مسيحيي لبنان مجاراتهم؟ هناك- في لبنان – المسيحيون الذين طالما انخرطوا في التوجه السوري بنوعٍ من الذمية في طرحهم والقابلية للتماثل مع مسيحيي سوريا فطلبوا الحماية من ديكتاتور. هؤلاء طالما نشدوا حماية نظام بشار الأسد وما شابهه من أنظمة ديكتاتورية ومن لف لفيفهم. والأسوأ أنهم يتماثلون مع هؤلاء الضعفاء بدل أن يقفوا ويعلنوا أن لبنان قوة للمسيحيين الآخرين. تريدون مثلاً؟ ها هو التيار الوطني الحر الذي طالما تحدث عن اتفاق لإراحة المسيحيين. ألا يندرج هذا في منطق طلب الحماية؟ هذا هراء. وهنا نستذكر شارل مالك، الدبلوماسي والمفكر، كان يقول: إذا سقطت المسيحية الحرة في لبنان انتهى أمرها في الشرق الأوسط كله. وإذا تفشت لدى المسيحيين عقدة الشعور الأقلوي حكموا على أنفسهم بالذوبان وفقدان الذات. فلنعلّم مسيحيي سوريا وكل المشرق العربي العنفوان المسيحي بدل أن نتماثل بهم وبتوجساتهم. انتهى الديكتاتور فلنحلم “ببكرا”. لبنان الذي أنجب بشير – وكلّ من هم على مثال بشير – يعلّم البطولة ويتنفس حريّة ويحلم بكرامة وعنفوان.
الليلة يولد يسوع. الليلة “أبشركم بفرح عظيم فاليوم ولد لكم المخلص”. فهل هذه البشرى- الرجاء ستُعيد الثقة بجدوى ووجوب البقاء على هذه الأرض؟ ليلة الثالث والعشرين- الرابع والعشرين من كانون الأول يتساوى الليل والنهار، والليلة، ليلة الرابع والعشرين- الخامس والعشرين، يبدأ النهار يُصبح أطول بثوان من الليل، ويصبح النور أطول وأقوى. وهذا يجعلنا نثق أكثر أنه بميلاد يسوع يبدأ تاريخ جديد. هي علامة خارجية لكن قيمتها المعنوية كبيرة. فيسوع هو نور العالم. والنور الليلة سيتوهج مجبولاً بفرحٍ عظيم، هو فرح الميلاد والقيامة معاً. فلا تخافوا. الله معكم. بادروا. بادروا. بادروا وصلّوا ولا تملّوا…