“قارورة الزيت لن تنقص وجرّة الدقيق لن تفرغ”
اليوم، حين ينتصف الليل، يولد يسوع. متألمون؟ خائبون؟ خائفون؟ محبطون؟ قلقون؟ يائسون؟ ثقوا أن الله، مصدر الحبّ، موجود وكلما كبُر في حياتنا صغُر كلّ شيء. وُلد المسيح. وُلد أوّل الثوار. هللويا.
“كم من ثعلب يتمادى اليوم في تخويف الدجاجة والوقوف دون تمكين الفراخ من التجمع تحت جناحيها. بل وكم من معمداني يُقطع رأسه كلّ يوم إرضاء لهيروديات هذا الزمن. وكم من سلطة مسلوبة ومتسلط بلا كرامة”.
هذه بعض ملامح رسالة ميلاد كتبها، بالقلب قبل الحبر، راعي أبرشيّة بعلبك- دير الأحمر المارونية المطران حنا رحمة. هي رسالة تُشبه حالنا والوجع فيها يشبه وجعنا والرجاء فيها يُشبه باب الرجاء الذي نرجوه. فماذا عن روحية الميلاد- الرجاء؟ وكم هو صحيح أن أصحاب الإيمان والإرادة والرجاء لا يطيلون المكوث في العتمة؟
جريئون؟ تتظاهرون؟ تهتفون بأعلى صوت، بحناجرٍ بُحّت: كلّن يعني كلّن؟ تهتفون ضدّ الفساد والسرقات والإهمال وإبليس؟ يسوع امتلك قبلكم الجرأة المدفوعة بقوة الحقيقة والتجرد الحرّ والإرادي وهذه الجرأة سمحت له أن ينعت هيرودس بالثعلب لأنه تمادى بالظلم والكفر والفساد والإجرام وعبادة الشهوات والسفاهة. وكم من هيرودس يوجد اليوم؟
يسوع ظلّ ثائراً بلا كللٍ وأميناً لسلطةِ الحقيقة التي لا يُمكن أن تُقمع وتوضع تحت المكيال. يسوع الثائر لم يستسلم ولم يخف من المتسلطين وظلّ صامداً واثقاً أن الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.
يسوع، هو أوّل من وقّع ميثاق الحرية والسيادة الحقة وبصم بدمائه معلناً إنتصار الثورة على أحقاد الظلام والشرّ المتسلط وافتتح وطناً روحياً جديداً لمن يريد الخلاص.
لبنان يريد اليوم الخلاص. اللبنانيون الثائرون على فساد وظلم وسفاهة يريدون اليوم الخلاص. فكيف لهم أن يحققوا، مع ولادة الطفل يسوع الليلة، روحية الميلاد؟
أراد الله أن يدلّ البشر، بكلِ الطرق، الى الحقيقة. وأرسل إبنه ليُخاطبهم مباشرة. ولد يسوع ليدلّ البشر الى معنى الحقيقة. ويشرح المطران رحمة: مشكلة كثير من الناس اكتفاؤهم بالأرض، بالكون، وبأن يأكلوا ويشربوا ويجمعوا المال. أتى المسيح ليقول لنا إن هذه الحياة التي نعيشها تُحضرنا لدخول الملكوت. وعلينا أن نستخدم مهاراتنا ونعيش الغفران كي نكون أهلاً للملكوت. أراد الله أن يصالح الأرض مع السماء وأن يقرّب الأرض من السماء. وأصبح أمام الإنسان الخيار، بإرادته، أن يُخلّص نفسه ويكون من حصة الله. الميلاد خلّص البشرية.
الليلة يولدُ المسيح ونحن، أمام فرصة جديدة كي نُخلص جميعنا، مسيحيون ومسلمون، أنفسنا. ويستطرد رحمة: ورد في القرآن الكريم كلمة روح الله: “ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”. والمسيح هو روح الله وكلمة الله وصوت الله. ونحن، في لبنان، في أرض مقدسة ويسوع كُرّم في القرآن وورد إسم العذراء مريم 33 مرة، في 14 سورة، وتوجد سورة خاصة سورة مريم.
الميلادُ أتى هذه السنة والناس جياع والقلق عارم والأرض تنتفض… فكيف يُمكن أن ينسى اللبنانيون كلّ شيء، كلّ كلّ شيء، ويحيوا روحية الميلاد؟
يسوع قال: جئتُ لأخدِم لا لأخدَم. ولد يسوع المسيح ليقف الى جانب الجائع والمريض والموجوع. نحن الليلة في أمس الحاجة إليه. ونحن، علينا أن نختبر هذه السنة أكثر من أيّ سنة سبقت معاني التجرد والعطاء والمحبة: “كنت جائعاً فأطعمتموني وعطشاناً فسقيتموني وغريباً فأويتموني وعرياناً فألبستموني ومريضاً فاعتنيتم بي ومسجوناً فزرتموني”. اليوم علينا أن نعيش جوهر مسيحيتنا ولا نتكل إلا على سلطة إبن المزود وقوة الله في حياتنا، فنعرف أن قارورة الزيت لا تنقص وجرّة الدقيق لن تفرغ. الله لن يتركنا ويسوع سيضع بركاته في بيوتنا. فلنثق بهذا الليلة، مع ولادة المخلص، لنرتاح. ولنصرخ لربّنا: يا ربّ أنت بركتنا وخبزنا وملجانا وثقوا أن جرّة الدقيق لن تفرغ.
تغيّر لبنان بين أمس واليوم كثيراً. فطالما كانت تجتمع العائلات مع بعضها ويعيشون ما يُشبه مهرجان الهدايا والطعام. ليلة الميلاد أخذت في الأعوام الماضية طابع الفرح الإجتماعي و”شجرتي أجمل من شجرتك” و”طاولتي أجمل من طاولتك”. لكننا هذه السنة، الليلة، سنعيش بغالبيتنا جوهر الميلاد الحقيقي، سنعود الى الأعماق، الى اللقمة التي سنتقاسمها بمحبة، وحبة الزيتون التي سنتقاسمها بتجرد. وحبس المصارف أموالنا سيجعلنا نتذكر أن “مالنا سيبقى هنا”. وكلّ أموال الدنيا لا تفيدنا أمام الحقيقة العميقة حقيقة الكون. كلامُ المطران حنا رحمة جميل.
نحن مضطرون، بحسب الأزمة التي تعصف بنا، أن نعيش التجرد لكن، بدل أن نعيشه بغضب فلنعشه بتأمل. فلنعش كما الفقراء. ولنتذكر أن لا قيمة للكون أمام الخلاص ويسوع المسيح، الذي جرّد نفسه من كل شيء وافتقر حتى لمأوى يولد فيه وهو من به خلقت السماوات والأرض وما فيهما، هو الخلاص.
ثوار؟
ما إن تربع يسوع على عرشه في مغارة بيت لحم حتى ظهر مع الملاك بغتة جمهور من جند السماء، يُسبّحون الله ويقولون: “المجد لله في العلى وفي الأرض السلام” وسرعان ما اتضح مفهوم جديد للسلطة الحقيقية لا يفهمه إلا البسطاء والمتواضعون أمثال الرعاة. وكثير كثير ممن ثاروا في لبنان منذ شهرين هم من البسطاء والمتواضعين والرعاة. وهؤلاء هم من ينشدون، من الحاكم، تطبيق سلطة المحبة التي لا تسأل عن مآرب شخصية ضيقة بل عن الخير العام ومصلحة الجميع. ثوار اليوم يريدون سلطة التجرد. سلطة التواضع. سلطة المزود.
هل نفهم من كل هذا أن التجرد، الذي نعيشه اليوم غصباً عنا، هو أحد أبرز قنوات الخلاص؟ وهل صيحات الجوع والفقر والعوز في الأفق تفتح باب السماء؟ يجيب رحمة: الله في طبيعته قدوس يُشرك المؤمنين، أصحاب النوايا الطيبة والإرادة الصالحة، في قداسته، ويفيض عليهم نعمه الغزيرة. إلا أن بعض المسؤولين غرقوا في أوهام المجد الباطل ووقعوا في شراك المال والسلطة والجشع، فانحرفوا عن الحقّ والصلاح واسترسلوا في الحرام حتى صار الوطن هيكلاً عظمياً يتناتشه الفاسدون. لهذا تغيب الثقة بالفاسدين وتتوجه الى المظلومين. لهؤلاء تُعطى كلّ الثقة. وتتوجه الأنظار الليلة، أكثر من أي يوم، الى البيوت المعتمة حيث ملامح العيلة الحزينة. فالفقر قاس غير أن الإستسلام ممنوع والإنتصار مصير المظلومين “ومن يزرعون بالدموع يحصدون بالترنيم”.
فلنرنم هذه الليلة كثيراً. فلنرنّم مع هطول المطر والثلج غزيراً. فلنرنم ولنصفق ولنفرح ولنغن: “تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج والنجمات حيرانين وزهور الطرقات بردانين… ومغارة سهرانة فيها طفل صغير بعيونو الحلياني حبّ كتير كتير… وخير وحبّ وتلج على كل قلب وعلى كل مرج إلفة وخير وحبّ متل التلج”.
إذا كان الله معنا فمن علينا؟ الله معنا ويسوع يولد الليلة بيننا. وميلاده هذه السنة يُشبه حالنا كثيراً. خوف وقلق وتشرد. وهذا يحمل إلينا الرجاء والتعزية.
يا الله كم نتذكر الليلة كلام البطريرك مارنصرالله بطرس صفير، ذات ميلاد، يقول: نسمع السيد المسيح يقول لنا في إنجيله المقدس ما قاله لتلاميذه يوم هبّت عليهم العاصفة وهم في عرض البحر المضطرب: ثقوا أنا هو لا تخافوا.
وماذا بعد؟
الليلة يولد يسوع. ونحن قادرون، بالمحبة والصبر والصلاة والشراكة والإلتزام والتجرد، على قهر الشريرين.
قلقون؟ تُظلمون؟ متروكون؟ يائسون؟ ضائعون؟
ثقوا أن الله موجود.