“يا بونا بدي فلّ من هالدني”
إني أبشركم بفرح عظيم ولد لنا مخلصٌ وهو المسيح إبن الله… من هنا، من هذه الحقيقة، نبدأ. فالميلاد بداية، الميلاد ولادة، الميلاد أول حرف على أول سطر. لكن، ثمة أوراق سوداء كثيرة تؤطر تفاصيل الحياة، فكيف نقلب الصفحة الليلة، مع ولادة يسوع، ونحيا فرح البداية الجديدة؟ هذا ليس سهلاً على الإطلاق. نحتاج الى قوة. الى حبّ كبير. الى رجاء كبير كبير… يسوع هو رجاؤنا. به نتمسك. معه نستعد ونتابع ونتحرر ونولد من جديد. إنه أول حرف وآخر حرف. إنه البداية الدائمة. إنه مخلصنا.
يا الله، كيف “تنشلنا” لحظات الولادة، في كل مرة، من القلق الشديد والإحباط الشديد واليأس الكبير؟ لكن، يا رب، هذه المرة ليست كما كل مرة. الحمل هذه المرة أصبح شديداً وأكبر من قدرتنا على الإحتمال. نصلي نقوى. ننظر يميناً ويساراً نضعف. السواد قاتم قاحل. ونحن، نعترف، ضعفاء. يا رب، فلنفكر بصوتٍ عالٍ. فلنتكلم بصوتٍ عالٍ. ولنبحث عن أجوبة.
هناك، في “محبسة” في جبل لبنان يسكن كاهن. نسأله عن الرجاء فيجيبنا بترنيمة فيها معاني عن البحر الهائج وزورق النجاة… فيها دمعة وابتسامة… وفيها عطر كبير ورجاء كبير. نتركه يستقبل يسوع. فيسوع الليلة آت.
الأب فريد صعب، كاهن قريب جداً من الشباب والشابات، يسمع أنينهم، يسمع قلقهم، ويسمعهم يتكلمون عن أحلامهم بصيغة “كان يا مكان”. هو نزل الى ساحات الثورة وأقام القداديس على الطرقات وأيقظ في الكثيرين رجاء. لكن، بعد حين، عادت وهمدت الثورة قبل أن يزول الفساد ويعود الوطن وطناً. فهل ما زال سهلاً بعث الأمل في القلوب من قلب اليأس؟ اللبنانيون، شباباً وكهولاً، ينتظرون الليلة الولادة الجديدة فكيف يستعيدون، بعد المخاض، الرجاء؟
التمسّك بالإيمان
يعود الكاهن فريد صعب الى الوراء، الى ألفي عام الى الوراء، الى مشهد المجوس والمغارة ويقول: “فلننطلق كما انطلق المجوس في عالم الغيب نحو الحقيقة. هؤلاء لحقوا نجماً في السماء دلهم على الطريق. جاء المجوس حاملين هداياهم: ذهب ومرّ ولبان. ونحن اليوم كما المجوس في عالم الغيب نتلمس طريقنا في ظل الأزمة، وبعضنا يشعر وكأن الله ليس موجوداً، وإذا وجد فماذا أقدم له: الذهب؟ لست قادراً. المرّ؟ لست قادراً. اللبان؟ لا بحبوحة لأتمكن من ذلك. فماذا يمكنني أن أقدم للطفل المولود؟ الجواب بسيط: أستطيع أن أقدم الكثير من خلال قربي من الإنسان الآخر. فكلما تقربت أكثر من أخي الإنسان أصبحت أقرب الى الله. والله الذي اعتبرناه فكرة في الغيم تجسد. وهذا استنباط من القلب الروحاني الى العالم الإجتماعي”.
الليلة يولد يسوع. ونحن، المسيحيين، نرى الصليب في كل مراحل الحياة. نحن نربط مغارة بيت لحم بالقبر الفارغ. ففي مغارة فقيرة ولد يسوع ومن القبر المعفن قام”.
هناك من يسمع “الأبونا” يتكلم وما أن ينتهي حتى يسأله: جميل جداً ما تقول لكن أين “نصرف” كل هذا الكلام واقعياً؟
الجواب لدى الأب صعب نفسه “أمامنا واقع مرير بحاجة أن نتمسك بإيماننا ونتشبث به. فالحياة ليست بحبوحة وراحة دائمة لكن هناك دائماً قيامة” وهنا يستعين الاب بقصة فتاة أتته تقول: “أبونا خلص بدي إنتحر”. أجابها بما يُشبه الصدمة لكن بحبّ: “الله لا يردك”. تلك الصدمة جعلتها تستفيق ويشرح “إذا تعمد المسيحي، ونال سرّ المناولة الأولى، وعند مواجهته أول أزمة شديدة قال: لم يعد للحياة معنى. فهذا معناه أن ذاك الإنسان لم يتعرف طوال حياته على المسيح”.
مثلٌ آخر أعطاه الأب صعب “أتتني شابة منذ أربعة أيام، والداها مشلولان، طالبة أن أرعاهما بعد رحيلها. قالت لي: أتركهما ابونا بعهدتك وأنا ذاهبة الى الموت. أجبتها: لا، أنتِ ذاهبة الى جهنم ووالداك سينتهيان في المأوى. ويستطرد بالقول: نحن جهاد مسيحي على مثال ماربولس لا جهاد دم كما عند كثيرين. نحن صمود وصلابة وصوم. نحن “يا عنا إيمان يا ما عنا” ولا بُدّ أن نصمد في أرض أرادها الله ارض القديسين. كل القديسين مرّوا في فترات قاحلة، أشبه بجفاف الصحراء، لكننا نثق أن رحمته دائمة.
الأب بيتر حنا يُرنم هو أيضاً لطفل المغارة وهو “كمان” يردد: “كل ما منقرب من الله منقرب من الناس. فالله حاضر في داخلنا، في أعماقنا، فلنعد الى أعماقنا نراه”.
الليلة يولد يسوع. فلنعد الليلة الى أعماقنا لنراه. نحن بحاجة ماسة اليوم إليه لنصمد. نحتاج الى أن نحيا بالفعل بالمسيح لنتجاوز كل البؤس والآلام. وهذا ليس مجرد كلام “لا يُصرف” بل فعل حياة.
ناطرينك
نحن، جميعاً، بحاجة الى أن نسمع أكثر علنا “ننجو” من واقعنا. فلنصغِ الى الأب بيتر حنا “المؤثر”. هو يتحدث عن “صورة الطفل الذي لا ذاكرة لديه وسيولد الليلة وسنخرج معه، من المغارة، الى حياة جديدة بحماسة شديدة وبإيمان وصلابة وسلام وحبّ للحياة”.
نسمع “الآباء” يتحدثون عن حبّ الحياة في وقت يعيش المؤمنون حياة تطغى عليها علامات الموت. إنهم يعيشون أزمات أشدّ من قدرتهم على التحمل. هنا يقول الأب حنا “المناسبة اليوم ليست للأطفال وحدهم. ولو كان الطفل يجد نفسه ملكاً الليلة مع ولادة يسوع. الطفل هو من يُذكرنا بحالنا يوم كنا أطفالاً. ويسوع قال لتلاميذه: إذا لم تعودوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات. وأجمل ما في الطفل أنه لا يخاف لأنه يعرف بوجود من “يعتل همه”. الطفل يغفو ما إن يضع رأسه على وسادته. أما نحن فننسى غالباً أن أبانا الذي في السماوات “يعتل همنا” أيضاً”.
نسمع الأب بيتر حنا يرنم” “ناطرينك توصل يا يسوع، من جوا العتمة، من عالم موجوع، ناطرينك حتى تغير وجّ الكون، تولد بمغارة وتبقى عنا هون معنا هون، ترسم بحضورك لوحة أجمل كون”. نسمع، نرتل، نستسلم للكلمات. ومن دون أن ننتبه نردد: ناطرينك الليلة يسوع.
نعود الى الأب فريد صعب لنسأله: ماذا تقول للشباب اليائس الليلة؟ يجيب “نحن بحاجة الى أن نحضنهم عاطفياً ومعنوياً. وعلينا، في المقابل، ان نقول لهم بلا مسايرة: ما فيكم تضلوا مربحين ربكم جميلة. لا يمكن للشباب ان يظلوا يرددوا: لماذا ولدنا هنا؟ نريد الرحيل من هنا؟ أما الى الشباب الصامد فنقول له: يدنا بيدكم. والليلة، بينما تدنو الساعة من منتصف الليلة، أجلسوا دقائق مع أنفسكم. وليسأل كل واجد منكم: من أنا؟ مواطن مسؤول عن مواطنيته؟ مسيحي مسؤول عن كنيسته؟ المسيحي حين ينتقد كنيسته إنما ينتقد نفسه ومسيحيته. فليأخذ كل واحد الليلة قرار تجديد العهد ببداية جديدة. فلنقرر أن نجعل من كل يوم ميلاداً. فلنزرع ولا نقطع. ولنبنِ. ولنغفر.
“شو قولكم في أمل؟”. هناك من لا يزال يسأل حتى اليوم، حتى الليلة، حتى اللحظة ذلك. الليلة يا هذا يولد يسوع وهذا ليس عن عبث. ويقول الأب بيتر حنا “الأمل “جوات” الإنسان. إنه غمضة عين ومسحة دمعة وفتحة عين من جديد. الأمل هو الصفحة الجديدة التي تنتظرنا. إنه القمر والشمس “.
شو حلوة الليلة؟ أحلى ما في الحياة هي البدايات والفرص الجديدة. الليلة، فلننتظر فرصة الربّ في حياتنا، حياتنا الكاملة مع الله، من جديد. فلنمد له، له وحده، يدنا. ولنساعده ليساعدنا. فلنجدد الثقة به. ولنقل له: اتفضل اشتغل شغلك.
هو فرحٌ عظيم سيغمرنا ولو للحظات. فلنستقبل يسوع مع الرعيان والمجوس والملائكة… نعم، ثمة ملائكة كثيرون صادفناهم في طريقنا، في 2021، رافقونا في أصعب اللحظات. فلنهلل الليلة: ولد يسوع.