فوجئنا عشيَّة عيد الميلاد المجيد كما فوجئ كُثُرٌ من اللبنانيين بتداول منشور عبر وسائط التَّواصل الإجتماعي مفاده «إحراق شجرة الميلاد التي نصبت في باحة كنيسة مار جاورجيوس في حي الزَّاهريَّة/ طرابلس»، ويبدو أن العمل التَّخريبي بفعل فاعِلٍ مأجور، وغالِبُ الظَّنِّ أن المرتكب مكلفٌ من قبل جهةٍ خارجيَّة تُضمِرُ الشَّر بلبنان وتهدُفُ من وراءِ ذلك إلى نشر بُذورِ الفِتنِ الطائفِيَّة في ظِلِّ مرحلةٍ فائقة الدِّقة على المُستويين الإقليمي والوطني.
أقولُ المنفِّذَ مدفوعاً من جهةٍ خارجيَّة أقلَّه «من خارج مدينة طرابلس على أقل تقدير، ومن مخابرات دوليَّة خارجيَّة على تقديرٍ أبعد»، وسيَّان كان المنفذون لبنانيين أم غير لبنانيين، هم جَهلة مُغفلين، أم جَهلَة حاقدين على كل القيم الدِّينيَّة وفي طليعتها الأدبيَّات الإسلاميَّة، هذه الدِّيانة السَّمحاء قامت على التأكيد على قيم الدِّيانتين السَّماويتين اللتين سبقتاها، ومكمِّلة لها، كيف لا، وهي قدَّرت وتُقدِّرُ كافَّة الأنبياء والرسل وتنظر إليهم بذات المعيار، وإن تكن مايزت سيدنا عيسى الم{سيح وأمه «العذراء مريم» سيِّدة نساء الأرض سلام الله عليهما، بتأكيدها على طهرهما وإعلاء شأنهما، بحيث أكَّدت على أن الأول من روح الله، وأن والدته حَملت به من دون أن يمسسها بشر، جاعلاً منهما آية للعالمين (أي مُعجزة)، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم وعلى وجه التَّحديد في الآية 91 من سورة الأنبياء {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وأعطاه الحجَّةَ له ولوالدته إذ مكَّنه من التَّحدث وهو في المهد إذ قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتاني الْكِتـبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصاني بِالصَّـلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرَّاً بِوالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}، وعليه كيف لمُسلمٍ أن يقدم على مخالفة روحيَّة التعاليم الإسلاميَّة، بالتَّعرُّضِ لشعائر ورموز دِيانة سماويَّة وأن يبقى على إسلامه؟؟؟؟
وليس من شك في أن أي اعتداء على رموز وطقوس وشعائر أي من الدِّيانات السَّماويَّة هو مساسٌ بقيمِ ومبادئ ومُسلَّمات الدِّيانة الإسلاميَّة، ولا شكَّ في أن من سوَّلت له نفسه إحراق شجرة الميلاد لهو ضال ومُضَلَّل، وترقى فعلته هذه إلى حدِّ الكُفر بالتعاليم الإسلاميَّة، وإن كان من قام أو قاموا بهذا الفعل الشَّنيع يرون فيه غيرة على الدين ورب العالمين، أليس من الأولى بهم أن يُعيروا اهتماماً بما يحصل من انتهاكاتِ لحُرمَةِ المُقدَّساتِ الدِّينيَّةِ في فلسطين وبخاصَّةٍ المَسجِدِ الأقصى «أولى القبلتين الشريفتين»، هذا في الدين ولن أطيل رغم أن الشَّرح يطول. ولكن ماذا عن الأدبيات الإنسانيَّة والوطنيَّة في ظِلِّ ما تشهده فلسطين وشعبها ذو الغالبيَّة الإسلاميَّة من إبادة جماعيَّة وتدمير ممنهجٍ لقطاع غزَّة؟ ألم يُثِر كُلُّ ذلك حَمِيَّتَهم وحماسَهم وغرائزهم للدِّفاع عن أهالي غزَّةَ إخواننا في الإنسانيَّة، كما لما لم تُثرهم كل الانتهاكات والمؤامرات وأعمال الفساد التي لحقت بلبنان وذهب ضحيَّتها اللبنانيون، ولما لا يتحرَّكون إلَّا في إطار إثارة الفتن الفئويَّة بطريقتهم المقيتة؟؟؟؟ هم مشبوهون مشبوهون مشبوهون مأجورون.
إن هذا الإعتداء السَّافر لهو عملٌ مرفوضٌ بكل المعايير، ومدانٌ بكُلِّ ما تحمُله الكلمةُ من معنى، وأن المتورطين فيه ليسوا من الدين في شيء، لا بل الدين الإسلامي برَّاء منهم ومن كل أمثالهم، وهم ملعونون إلى يوم الدين، وهم بالتَّأكيد لا ينتمون إلى الشَّارع الطَّرابلسي، الذي سبق لي وعايشته خلال فترة التسعينات، واكتسبت الكثير من عفويَّته وسماحته، وهم أبعد ما يكونون عن القيم الوطنيَّة التي يختزنها أهالي الفيحاء، تلك المدينة التي عرفت عبر التَّاريخ كيف تحافظُ على تنوعها ووحدتها وتآخيها، ولن تُحَقِّقَ هذه الجَريمَةُ المَكشوفَةُ مآرب مُرتكبيها ولا من يقف خلفهم، لا بل ستزيد أهل طرابلس وعموم الشَّعب اللبناني المزيد من اللِّحمة والتآخي.
وليعلم خفافيش الظُّلام أنهم بفعلتهم الخسيسة هذه قد وجهوا طعنة في الصدر للمُسلمين وأخرى في الظهر لمن يتقاسم مرَّ الحياة وحلوها مع المسلمين وقد سبقوهم بما يزيد عن نصف قرن من الزمن في الدعوة لعبادةِ الله الواحد الأحد، إله موسى وعيسى ومحمد، كما فاتهم أنه تجمع بين أنصار الثلاثة عبادتهم لرب العالمين لا أوثان، وأن الله سيحاسبهم على سوء فعلتهم، ولن يغفر لمن يُضلِّلَهم بذرائع وفتاوى ضالَّة مضللة.
إن هذه الفعلة الشَّنيعة، وإن تكن بالنسبة لنا مَكشوفة المُبتغى، إلَّا أنه ينبغي ألَّا تمُرَ مرورَ الكرام، وبالتالي ينبغي بذل كل الجُهد من أجل كشف مؤامرتها وهويَّة الضَّالعين فيها وانتماءاتهم، ومن يقف خلفهم، وإخضاعهم إلى محاكمة سريعةٍ، تنفَّذُ عقوبتها ميدانيًّا وفي ذات المكان، وحبَّذا لو أن عقوبةَ الإعدام ما يزال معمولاً بها، لتمنينا أن تنفَّذَ العقوبة بحقِّ الأشرار الضَّالعين بهذه الجريمة النكراء بما يتجانس مع طبيعةِ سلوكهم الإجرامي أي حرقًا، لأنَّ فعلتَهم هذه تنطوي على جنايةٍ فتنويَّةٍ تستوجبُ الإعدام.
ونخلُصُ من كل ذلك لمُناشدة الأجهزة الأمنيَّة والقضائيَّة بضرورةِ إيلاء هذه الجريمة البشعة ما تستحقَّه من اهتمام، لجهة استمرار التَّحري عن منفذيها والمُحرضين على ارتكابها وكشف هويَّاتهم وتوقيفهم وإحالتهم على القضاء المختص، وتسريع إجراءات مُحاكمتهم، وإنزال العُقوبة المناسبة بحقِّهم، على أن يصار تنفيذها قبل حلول الميلاد القادم.
وأنهي بالتَّوجُّه بأحرِّ التهاني بعيدي الميلاد المجيد ورأس السَّنة لجميع اللبنانيين على أمل أن يكون العام القادم واللبنانيون بحال أفضل مما هم عليه اليوم، وقد تخلصنا من كل الانحرافات والمنحرفين دينيًّا أو سياسيًّا أو أخلاقيًّا أو وطنيًّا، أو إنسانيًّا.
*عميد متقاعد