Site icon IMLebanon

وقائع لا تُطمئن !

عوّل اللبنانيون على أنّ عطلة عيد الفطر ستشكّل الحد الفاصل بين مرحلة خلافية في السياسة والانتخابات وشديدة التعقيد على مستوى الملفات المتراكمة التي باتت تحتاج الى علاج سريع، ومرحلة تُفتَح فيها صفحة جديدة من المقاربات لكل الشأن السياسي، وكذلك لكل تلك الملفات، عنوانها التفعيل والانتاجية على المستويين الحكومي والمجلسي، ربطاً بطاولة بعبدا التي جمعت رؤساء الاحزاب الحاكمة، ورسمت خريطة طريق العمل في مرحلة ما بعد العطلة.

جاءت العطلة، وعَيّد المسؤولون، وسافروا، وهيّصوا، وعادوا بكل نشاط الى حقل العمل، ولكن أولى الصور التي تَبدّت في مرحلة ما بعد العطلة التي كان يفترض ان تكون ماكينات التفعيل والانتاج قد تمّ تزييتها وملئت خزاناتها بالوقود السياسي والمنشّطات الحيوية للتصدي للمهمة الجليلة التي تنتظر أهل الربط والحل السياسي، أفرزت مشاهد ووقائع من نوع آخر، مخالفة لكل الوعود التي قطعت ولا تبعث على الاطمئنان:

– المشهد الاول، انّ الانسجام السياسي، الذي حكم مرحلة ما قبل الوصول الى القانون الانتخابي، يبدو انه اقترب من انتهاء صلاحيته. وكل طرف خلع قناعه وقفازاته التي أملتها تلك المرحلة وعاد الى التمَوضع خلف عناوينه وأولوياته وداخل حدود مصلحته. وتؤشِّر مواقف بعض القوى السياسية وكأنّ أصحابها يبحثون عن مشكل بأيّ ثمن وتحت أي عنوان!

– المشهد الثاني، معطوف على المشهد الاول، ويتبدّى فيه اشتداد حرارة الجمر الموجود تحت الرماد السياسي، وهو ما تجلّى في رفع المتاريس والاشتباك الداخلي على حلبة العملية العسكرية التي نفّذها الجيش اللبناني في مخيمات النزوح السوري في منطقة عرسال، وتَقصُّد بعض الاصوات السياسية في الداخل، حَرف الانتباه عن حجم ونوعية الانجاز الذي تحقق من خلال هذه العملية، وتغليف تلك المخيمات بطابع إنساني مفتعل، وإطلاق ما يشبه «المندبة السياسية» عليها، حَجبت ما تشكّله المخيمات في منطقة عرسال تحديداً من بؤر إرهابية شديدة الخطورة على الداخل اللبناني، ووضعت الجيش، في الموقع الذي يتلقّى فيه سهام الاتهام بدل ان يوضع في الموقع الذي يتلقّى التهاني.

أكثر من ذلك، فرزت الحكومة بين محور مؤيّد للخلاص من هذه «الدمّلة» والتنسيق مع الجانب السوري في هذا الخلاص، وكذلك في التخفيف من العبء الثقيل الذي يشكله النزوح السوري على المجتمع اللبناني ومكوناته كلها، وبين محور رافض ومعارض لذلك بشكل قاطع. ويتسلّح هذا المنطق المعارض بأنّ هذا الملف هو من المواضيع الخلافية التي تمّ الاتفاق مُسبقاً عليها بين قوى سياسية معيّنة على ان توضع جانباً.

متجاوزاً بذلك الوقائع التي تحيط بهذا الملف سواء التطورات المتسارعة في الجانب السوري والانهيارات في صفوف المجموعات الارهابية، أو مخيمات النزوح نفسها التي لا يستطيع أصحاب هذا المنطق أن ينفوا الخطر على لبنان الكامن فيها ويتعاظم داخلها يوماً بعد يوم، على النحو الذي لا يجعله من النوع الذي يمكن ان يوضع جانباً، بل يجعله ملفاً ملحّاً ومرتبطاً بمصلحة لبنان العليا وأمن اللبنانيين، ويتطلّب العلاج الفوري، السياسي والجراحي.

– المشهد الثالث، إهتزاز الثقة، الهشّة أصلاً، بين الجبهات السياسية، وهو ما عَكسه ملف الكهرباء وفق خطة وزارة الطاقة ليس فقط من خلال الخلاف السياسي حوله، ولا من خلال التباينات حول أرقام المبالغ المقترحة لاستئجار بواخر التغذية، بل للالتباسات التي شابَته مؤخراً بعد «العثور» بصريق الصدفة او عمداً، في متن قرار مجلس الوزراء بإحالة هذا الملف الى دائرة المناقصات، على ما اختلفت التسميات حوله بين من سمّاه بـ«تزوير»، وبين من سمّاه بـ«تعديل»، وبين من سمّاه ـ» خطأ مطبعي»… وهو ما طوّق «المعثور عليه» بطبقة سميكة من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول ايّ من هذه التسميات هي الدقيقة، وكذلك حول من «زوّر» او «عدّل» او «صحّح»، وكيف اكتُشف ذلك ومن اكتشفه؟ ومن أوعَز بـ«التزوير» او «التعديل» او «التصحيح»؟ وأهمّ من كل ذلك كيف تمّ المرور مرور الكرام على أمر يتطلّب ولو الحد الأدنى من التحقيق والمساءلة؟ وهل ثمة من تمّت مساءلته في هذا الموضوع؟

– المشهد الرابع، حالة تخبّط واضحة تضرب الطاقم السياسي، وهي نتيجة طبيعية للانقسام الحاد في ما بينه، وهذا يعني انّ أهل السياسة، في غالبيتهم، لم يهضموا بعد المرحلة الجديدة التي فتحها إقرار القانون الانتخابي الجديد. فـ «لقاء بعبدا» رسم طريق الاولويات، لكنّ هذا اللقاء يكاد يكون مجرّد مناسبة اجتماعية بلا أي محتوى، اكثر ممّا هو لقاء بهدف التنشيط والتفعيل.

ذلك انّ الاولويات او الملفات المتراكمة المحكي عنها، لم تُحدَّد أجندتها بعد، وليس ما يؤشّر الى إعداد أجندة من هذا النوع. بل انّ الواضح هو انعدام الحماسة وغياب الحد الأدنى من التفاهم السياسي على وَضع وترتيب أجندة الاولويات والملفات الحكومية، حتى من حيث المبدأ.

تِبعاً لتلك المشاهد والوقائع وما يعتريها من تناقض وانقسام ولا ثقة ومتاريس، من الصعب الرهان على إمكانية تمكّن السياسيين من ان يحققوا التفاهم المطلوب في ما بينهم لترتيب أجندة الملفات الداخلية بحسب أولوياتها وضرورتها، والتي تُدخل الحكومة والمجلس النيابي في مدار الانتاجية المتوخاة.

وذلك على رغم أنّ هذه الانتاجية المطلوبة، هي بطبيعة الحال وبحكم الواقع قصيرة المدى ولا تَمتدّ على كل الفترة التمديدية للمجلس والممتدة على أحد عشر شهراً. ما يعني انّ سقف هذه الانتاجية حدوده بداية الشتاء المقبل، وانّ الفترة المتاحة للانتاج هي نحو خمسة اشهر حدودها تشرين الثاني المقبل، اي ما تبقّى من الصيف وفصل الخريف.

لأنّ الانتخابات النيابية المقررة في ربيع العام المقبل، ستَتحكّم بخناق المشهد السياسي على مدى الستة أشهر السابقة لموعد إجراء الانتخابات، وسيتفرّغ الجميع للتحضير لهذا الاستحقاق وكيفية إدارتهم لمعاركهم فيه.

هنا يحضر السؤال: ما الذي سيحكم المشهد الداخلي خلال الاشهر الخمسة المقبلة السابقة لفترة دخول البلد مدار الانتخابات بدءًا من تشرين الثاني المقبل؟

ثمّة احتمالان، أحدهما ضعيف جداً والثاني قوي جداً.

الاحتمال الضعيف جداً يقول ان تبادر الحكومة بمكوناتها السياسية المختلفة الى محاولة منع الانقسام السياسي الحاد من أن ينسحب على الملفات الحيوية ويبقيها في مدار التعطيل. وبالتالي، إدخالها بحسب ضرورتها واولويتها في مدار الحلحلة والانتاجية.

اما الاحتمال القوي جداً، فهو بقاء البلد مضبوطاً على إيقاع الانقسام السياسي، وبالتالي الاستمرار في حال المراوحة الراهنة التي تبقي الملفات الداخلية مركونة في مكانها وتبقي الانتاجية الموعودة مجرّد شعار مرفوع وبلا أي معنى.

أمّا تقطيع الوقت من الآن وحتى مرحلة التفرّغ للانتخابات، فيكون عبر الانشغال والتمَترُس خلف العناوين الخلافية ذاتها، بمناكفات ومشاحنات وتوترات سياسية إنما تحت سقف عدم الإخلال بالاستقرار الداخلي.

وامّا الحكومة فتبقى موجودة كما هي في وضعها الراهن؛ تعمل بما تَيسّر وبلا إنجازات او خطوات نوعية، وهذا ما يجعلها تشبه حكومة تصريف أعمال. وبطبيعة الحال فإنّ قلّة الانتاجية الحكومية تلحقها حتماً قلّة في الانتاجية المجلسية.