IMLebanon

وقائع من التاريخ تروي قصصاً عن أهداف الدستور

هذه هي فضائل الرؤساء والوزراء

مع القانون الإنتخابي خلال نصف قرن

كان الوزير السابق للداخلية مروان شربل الوزير الوحيد المؤهل كحاكم سابق لوزارة حساسة، لاعطاء رأيه بشجاعة في القانون الجديد للإنتخابات النيابية.

وعندما اختاره الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان وزيراً للداخلية، وعهد اليه في اعداد قانون جديد للإنتخابات، قيل انه أعطى الكأس باريها، وان العميد مروان شربل هو نتيجة تفاهم وقع عليه سراً أو مداورة، بين رئيس الجمهورية الحالي العماد ميشال عون وبين الرئيس العماد ميشال سليمان.

يومئذٍ، كانت الانظار مُسلطة على الرئيس السابق لهيئة الإنتخابات فؤاد بطرس، والذي حرص بدوره على أن يؤتي بما لم يأت به سواه، من ثقافة وعلم وادراك لواقع البلاد. الا ان الوزير مروان شربل لم يغرق في مياه الإشاعات، وظل، فور تسلمه منصبه الجديد، يسعى الى اختيار نخبة من الكفايات العلمية ليأتي، بهدوء، بأفضل ما يمكن أن يصدر عن السلطة، من انجازات ادارية وقانونية.

والوزير شربل عرفه الناس في الشمال، بادئ الأمر يوم كان رئيساً للقوى الأمنية، وقائداً شجاعاً للمدارس الأمنية ولا احد ينسى الدور الذي اضطلع به، مع رفاقه وفي مقدمتهم العميد بدري غزال في القضاء على دولة المطلوبين برئاسة المطلوب الخطير للسلطة والمعروف باسم احمد القدور.

وساعة وقع الاختيار على وزير للداخلية، في عهد الرئيس ميشال سليمان، وبتوافق بينه وبين العماد ميشال عون، أدرك اللبنانيون ان السلطة اعطت القوس لباريها وان السلطة تريد فعلاً وزيراً للداخلية مؤهلاً بما لم يأتْه الأوائل على حد قول الوزير الراحل نصري المعلوف.

طبعاً، فتح تعيين الوزير مروان شربل كتاب التعيينات بعد انغلاق، لكنه راح يعمل بصمت وهدوء ويفتش عن الكفاية لا عن الشهرة. وفي وقت قصير استطاع مروان شربل اعداد مشروع قانون انتخابي عصري لا يستهان بمحتواه. ولذلك، عندما بادر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى اعلان رفضه لقانون الستين، أدرك الجميع ان صاحب العهد الجديد، لن يكون صاحب القانون الهجين أو العتيق، أو المتوارث منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب، والمحسن بعض الشيء في قانون مؤتمر الدوحة.

ولذلك، فقد بادر وزير الداخلية السابق، الى اعلان تحفظه على المشروع الجديد للقانون الإنتخابي، وبادر في مجالسه الخاصة والعامة، الى المجاهرة بتحفظاته ولم يمنحه مطلقاً، الترحيب، لا بل انه أبدى عتباً لا يخلو من القساوة عليه، ايماناً منه بان القانون، أي قانون لا يعطي التأييد والموافقة لمجرد اعلانه.

كان وزراء الداخلية السابقون يتمتعون بكفاية الذود عن القانون، ومن ابرز هؤلاء في الحقبة الأخيرة الوزير زياد بارود، الوزير المثقف الذي قيل لدى اختياره وزيراً للداخلية، انه جاء نصيحة أبداها الوزير السابق الذي عمل معه فؤاد بطرس، مع انه تواضع عندما قال انه من اختيار رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال سليمان.

والقصة شهدت مثيلاً لها في العام ١٩٦٠ والعام ١٩٧٠، عندما عين الرئيس شارل حلو الوزير السابق هنري فرعون وزيراً للداخلية، لكنه ما لبث أن استقال، فاختار رئيس البلاد الوزير سليمان فرنجيه بدلاً منه. وقيل يؤمئذ انه عرف كيف يستعين بجهاز يتمتع بالكفاية والثقافة، ليقدّم للبنانيين وزارة نظيفة وجديرة بالنزاهة.

طبعاً تعاقب على حقيبة الداخلية معظم رؤساء مجلس الوزراء وابرزهم عبدالله اليافي، صائب سلام، تقي الدين الصلح، اضافة طبعاً الى الوجه الكبير في مطلع العهد الإستقلالي الأول الرئيس رياض الصلح الذي اغتيل في عمان عاصمة الأردن.

والإمتحان الأول برز ساعة تقدمت السفارة الأميركية في بيروت، بطلب رسمي تبلغ فيه الحكومة اللبنانية عزم وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كيسنجر زيارة لبنان، في اطار جولته على الشرق الأوسط.

وعندما فاتح رئيس الحكومة تقي الدين الصلح الرئيس سليمان فرنجيه بالموضوع، ابدى معارضته للزيارة، معترضاً على ميوله اليهودية. الا أن الصلح بادره بان في الامر اهانة لمعظم الرؤساء العرب، لأنه عندما يرفض لبنان زيارته، يكون قد وجه إهانة الى الرئيس السوري حافظ الأسد الذي استقبله قبل ٥ أيام، فتم الإتفاق على استقباله في قاعدة رياق الجوية قرب مدينة زحلة.

الا ان رئيس الجمهورية اللبنانية، عاتبه على دعمه للعدو الاسرائيلي، وطلب من الولايات المتحدة الأميركية، ان تضع حداً للغطرسة الاسرائيلية، لانه لا يجوز ان تلقى الدولة العبرية الدعم والتأييد من السلطة الصهيونية، على حساب لبنان والدول العربية. وهذا عداء مزدوج وسافر من الأميركان ومن الاسرائيليين لدولة لبنان على حد سواء.

وفي عهد الرئيس الأميركي جيرالد فورد، بعد استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من الرئاسة، عقب فضيحة ووترغيت أوفد اليه من يدعوه الى زيارة البيت الابيض الاميركي، لكن الرئيس فرنجيه، وكان قد وصل الى نيويورك لإلقاء كلمة لبنان في دورة فلسطين، أمام الجمعية العامة للامم المتحدة رفض دعوته، لأن السلطة الاميركية أهانت لبنان، عندما عمدت الى تفتيش حقائب الوفد الرئاسي اللبناني الذي اصطحبه رئيس الجمهورية معه الى الامم المتحدة.

يومئذ، نزل رئيس الجمهورية في مقر القنصلية اللبنانية، ونزل أعضاء الوفد في فندق والدورف إستوريا الشهير وطلب من السفيرين سهيل شماس وانطوان الدحداح ألا يعلم أحد من أعضاء الوفد الرئاسي بالأمر، لكنه دعاهم الى زيارته في طريق العودة الى القصر الجمهوري، وأبلغهم بالأمر، وبان السفير الاميركي في بيروت غودلي قد زعم بأن الرئيس صبري حمادة عضو الوفد الرئاسي يحمل معه كمية كبيرة من حشيشة الكيف في حقائبه وهذا ما جعل الرؤساء شارل حلو، رشيد كرامي عبدالله اليافي وصائب سلام يشتكون من التصرف الاميركي.

كانت دعوة الرئيس ميشال عون الى طاولة الحوار في بعبدا، فرصة تاريخية لجمعه أولاً بمختلف الأفرقاء في الحكومة أولاً للتأكيد على ان الاختلاف السياسي بامكانه أن يجمع السياسيين حسب ميولهم وأفكارهم، الى حوار يستلهم مصلحة لبنان وسيادته في ظل التباينات السياسية القائمة، وثانياً ردم الهوّة الفاصلة بينه وبين النائب سليمان فرنجيه الذي لم يلتق معه منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

وهكذا نجح الرئيس ميشال عون في جمع أقطاب الحكومة بمن فيهم الوزير فرنجيه، واستبعد، وفق اللعبة السياسية، السياسيين المعارضين وغير المشاركين في الحكومة برئاسة الشيخ سامي الجميل، ومهّد بعقله الثاقب للحوار لا للإنفصال، في بناء وطن واحد يلتقي فيه المتفقون ويختلفون في آن وهذا في رأي الكثيرين الفرصة الحقيقية للتواصل السياسي.

ويقول القريبون من مختلف الأفرقاء، انه عندما تنكفىء ارادة التواصل، عن التوافق على مصلحة الوطن، تزول فعلياً إرادة المصارحة والحوار.

ويضيف هؤلاء بأن إرادة الحوار مزدوجة: ذلك ان الرئيس العماد عون مصمم على خطتين في آن واحد: جمع مَنْ بالإمكان جمعهم في حكومة واحدة، والاتفاق أو الإختلاف على بعض القضايا الخاصة والعامة، إلى حين حلول الفرصة المرتقبة، للحوار الحقيقي، فيقتصر الحكم لاحقاً على المتوافقين أو يستمر الحوار بين المختلفين الى حين ظهور فرص حقيقية للنقاش والإتفاق أو الاختلاف على بعض نقاط أساسية غير قليلة للتوافق في المدى المنظور.

يبدو أن الرئيس فؤاد شهاب ظل، منذ بداية عهده الى نهايته، يستعمل كلمة واحدة. هي الكتاب. أي انه يلتزم بما ينص عليه الكتاب اي الدستور.

إلا انه بعد محاولة الانقلاب التي قادها الحزب السوري القومي الاجتماعي، ظل معارضاً لأي حديث يرمي إلى التجديد له ست سنوات، وإن ظل مستاء من اقدام العسكريين على المؤامرة عليه. وقد عمد الى التصلّب السياسي، في معارضته للسياسيين المناوئين له، وفي مقدمتهم كميل شمعون، وريمون اده وسليمان فرنجيه وكاظم الخليل وعادل عسيران، لكنه لم يقم بأي تصرف معاد لهم، لعدم وجود اثبات عملي في حوزته ضدهم.

وعندما فاتحه فرنجيه بأمر تأييده، بواسطة الضابط أحمد الحاج سأله: ماذا يريد إبن قبلان فرنجيه، وهو يعرف أنني أريد الياس سركيس لا سواه.

يقول فؤاد بطرس ان الرئيس شهاب كان يدرك ثمن التجديد من خلال رغبة هذا الأخير في تمديد ولايته في ظل المعارضة الصارخة لعهد كميل شمعون الذي لم يقل انه يريد التجديد، لكنه أوضح: ماذا يعود لي من سلطان، إذا صرحت علناً بأنني لا أريد التجديد.

وأردف، في أحاديث الى أصدقاء قلائل: أي قائد للجيش ينتخب بعدي رئيساً، سيحمل الضباط على الخروج من الإنضباط والتدخل في السياسة، وسيضاعف طموحهم للوصول الى السلطة وسيكون ذلك هدفاً يعملون له داخل الجيش.

ظل الرئيس شهاب يكرر الموقف نفسه أمام نواب شهابيين كانوا يقصدونه لحضه على المضي في تجديد ولايته، على الرغم من تكرار معارضته للتجديد.

صحيح أن فؤاد شهاب ظل معارضاً للتجديد لكن الإنتخابات النيابية التي جرت في نهاية التطورات، أظهرت الثمن السياسي الباهظ للتجديد، إذ سقط كميل شمعون في دائرة الشوف بفارق ١٢٧ صوتاً، وريمون إده في جبيل بفارق ٢١٣ صوتاً. للتو أمكن تفسير دوافع اقصائهما عن مجلس النواب، وبذل جهود حثيثة لإضعاف موقعهما في المعادلة السياسية والمارونية خصوصاً، على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية، وكان المقصود أيضاً تعطيل مقدرتهما على مناوئة الشهابية.

وعندما سأل فؤاد شهاب عن معركة جبيل، قيل له ان لائحة الأطباء ستفوز كلها حسب النتائج الواردة كانت تضم شهيد الخوري وانطوان سعيد.

ويقال ان فؤاد شهاب أقفل سماعة الهاتف بانفعال، لأنه كان يتمنى نجاح واحد منهم في قرطبا وخسارة الثاني في ساحل جبيل.

صباح اليوم الثاني، مع اعلان فوز النائبين شهيد الخوري وانطوان سعيد أدرك فؤاد شهاب حراجة الموقف: كيف يمكنني ان اجعل الفاتيكان يصدق اخبار سقوط كميل شمعون في الشوف وريمون اده في جبيل.

ويقول فؤاد بطرس ان نتائج انتخابات العام ١٩٦٤ كرست التعاطف السياسي مع الزعيم الماروني في دير القمر والزعيم الماروني الآخر في بلاد جبيل.

ضاعفت نتائج انتخابات العام ١٩٦٤ قوة المعارضة، وكبرت الإتهامات الموجهة ضد الشعبة الثانية.

كانت حكومة الرئيس حسين العويني آخر حكومات عهد فؤاد شهاب، ونهاية الزعامة الشهابية في البلاد، لأن لا أحد كان يصدق أخبار سقوط كميل شمعون وريمون اده في براءة سياسية، خالية من الانتقام الشخصي.

كان تصريح فؤاد شهاب، بأنه ندم عندما رفض العودة الى رئاسة الجمهورية في العام ١٩٧٠، لانه أتاح لخصوم الشهابية الإنقضاض عليه بقوة وشراسة، لكنه ظل يردد في مجالسه بأن الخطأ في التقدير هو بحجم الخطأ في العقيدة.

وفي مطالعاته باللغة الفرنسية التي كان يجيدها أو يستعين بزوجته الفرنسية، حرص على بلورة أفكار كبار المفكرين الفرنسيين في تعابير عربية المنحى، لكنه ذهب بفكره إلى حد الإعتبار بما تضمنته من آراء.

إلا ان فؤاد شهاب كان معارضاً لتحوّل الترجمة من الفرنسية إلى صناعة لغوية، لانه كان يؤمن، بأن الترجمة تتساوى مع الأناقة باللغة الام ولو في تصرّف احياناً.

من أجل ذلك، راح يدعو إلى الاصالة في الكتابة، وإلى البراعة في الترجمة، لان الاثنين من أصائل الأفكار.

كان شغوفاً بأسلوب الكاتب الشهيد ليوبولد سيدار سنغور، لان ثقافته الإنسانية مثل إلمامه بالعلوم الصحيحة. والقريبة من أفكار الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة. وكان يقول ان أفكاره قد تُعيد الى الذاكرة ما كتبه ناسك الشخروب في اواسط الخمسينات، ولا سيما في كتابه الغربال وهذا ما جعل بعض المفكرين يشبهون سنغور بالكاتب جان جاك روسو لما بينهما من إحساس مرهف وتطلعات متشابهة.

ويقول جان جاك روسو انه يتمتع برشاقة ومواهب نادرة في تدبير شؤون سواه. وانه لا يسع القارئ إلا ان يلحظ أوجه الشبه بين روسو ونعيمة في بعض الوجوه الانسانية.

ويرى روسو في تهكم مفرط انه مهما يصدق الانسان في قوله، فلا بد له أن يصر أحياناً في بعض الأمور.

وفي الواقع فان روسو اعتصم بالتواصل والأمانة في ترجمة أفكاره. والأمانة هي نقيض الخيانة، والأمانة، في نظره، تقع على مبادئ الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان، وتتناسب مع أهداف الكلمات ومعاني الأفكار أو تتطلب الدقة.

ولهذا، فان الكاتب شوقي قازان يؤكد في كتاباته ان الكتابة هي سليل الحرية، وأن الكتاب ينطوي عادة على شذرات مختارة تراوح بين العبارة والعبارة، ويستمد من السياسي والكاتب فؤاد بطرس الصفحات بأقلام رجالات الأدب والفكر، وهذا ما جعله يقول إن نوعية العلاقة التي تربط بين المؤلف وما يكتبه، انما تتم حسب تعريفه لما يعتبره الثقة المتبادلة بين الوعي والاحترام.

ويخلص الى ان لبنان يبقى ويستمر كيانا ودوراً موئلاً للتلاقي والإنفتاح، ومعقلاً للتلاقي بين الأفكار والحضارات.

كان الشاعر خليل حاوي رائد الفكر الراقي وصاحب اثر طيب في الشعر والنثر، وكأنه يردد دوحة واحدة تجمع بين الجامعة والعلم والعالم، وهذا ما جعل الجميع يقرعون طبول الفرح والألم من أجل بلورة إنسانية واحدة.

من هنا كان رفض الطائفية والحرص على الاعتصام بالقيم الروحية، وعلى إنشاء دولة تقوم على الكرامة.

ومن الأسباب الباقية حجر عثرة في وجه إنجاز القوانين، السعي الى كسر جناح الفكر الطائفي أمام حرص القوى العاقلة أمام تفادي الوقوع في الشرخ الطائفي، وهذه آفة سياسية لا يجوز تجاوزها في أي ظرف من الظروف.