يَنسى النّاس، أحيانًا، أنَّ الكاهِنَ إنسانٌ، وفوقَ هذا أنَّه أب. أُصَوِّرُ لَكُم قليلًا، مشاعِرَ الكاهِنِ في كنيسةٍ فارِغَةٍ مِن مؤمِنيها. يُشبِهُ الكاهِنُ أبًا سافرَ أبناؤهُ، قَسرِيًّا، لَكِنَّهُ يَتَحَدَّثُ مَعَهُم يَومِيًّا عبر وسائِلِ التَّواصُلِ، أو يُخاطِبُ صُوَرَهُم المُعَلَّقَة، وكُلَّما مَرَّ بِالقُربِ مِن مقعَدِ أَحَدِهِم ليبخّره يَتَذَكَّرُهُ مُبتَسِمًا ودامِعًا في آن. الكاهِنُ حالِيًّا أبٌ يَلتَفِتُ لِيُعطي “السَّلام لجميعكم”، فلا يَرى سِوى مقاعِدَ باردة وفارغة، وآلةً تنقل صورَتَه وصوتَه “وسلامَه” إلى منازِلِ الأبناء. نعم، تدمعُ عَينا الكاهن وكأنَّه ينظرُ إلى سريرِ أولادِهِ فارِغًا. الكاهن حاليًّا يشبِه الأب الذي يجلس إلى مائدته منفرِدًا، لا أحد يشاركه الطَّعام، لكنَّه ربَّما يضع جوَّالَه أمامَه ويتَّصلُ بأولادِه “Video Call” ليتسامر معهم وهو يأكل.
في زمن الكورونا، الكاهِنُ أبٌ يُخبِرُ أبناءَه قصَّةَ حُبٍّ خلاصيٍّ لَكِنَّه ليسَ متأكِّدًا مِن أنَّ الجميعَ يسمع، الأمر الَّذي يذكِّرُنا بـ”مرثا” الّتي انهمكت في تحضير الطَّعام فقالَ لها الربُّ يسوع: “مرثا مرثا، أنتِ تهتمّينَ وتضطربينَ لأجلِ أمورٍ كثيرةٍ، ولكنَّ الحاجةَ إلى واحدٍ” (لوقا 10: 41-42). الكاهن حاليًّا هو أبٌ يصلِّي كي يكونَ أبناؤه بصحَّةٍ جيِّدة، وكي يعودوا إلى ديارِهم (الكنيسة) سالِمين، وحينئذٍ يلتمُّ شملُ العائلةِ مجدَّدًا، فيشكرونَ الربَّ معًا. لكن، لكي يعودوا سالمين، عليهم أن يُطيعوا، ويبقوا في منازلهم، ويحافظوا على صحّتهم وصحّة أحبّائهم، إلى حين يُسمَح لهم بمغادرَتِها، بعد التأكُّدِ مِن زَوالِ الخطر.
أسوةً بِكُلِّ البلدانِ التي أصابها الوباءُ المستجدّ، إتَّخذت حكومتنا اللّبنانيّة قرارًا بالتّعبئة العامّة، والحظر الجزئيّ للتجوُّل، ومنع التّجمُّعات. طبعًا، كان كلُّ هذا في سبيل المحافظةِ على الإنسان. يقولُ الرّسولُ بولس: “أطيعوا مدبِّريكُم واخضعوا لَهُم، لأنَّهم يسهرونَ من أجلِ نُفوسِكُم، كأنَّهم سوف يعطونَ حِسابًا” (عبرانيّين 13: 17). إنطلقت كنيستُنا الأنطاكيَّةُ المقدّسة من روحانيّة هذه الآية، ومن أهميَّةِ وضرورة المحافظة على الإنسان المخلوق على صورة الله ومثالهِ، وأطاعت الطبّ ومدبّري البلدان التي تقع أبرشيّاتُها ضمنَ نطاقِها، فطلب المجمع الأنطاكيّ المقدّس، ضمن بيانٍ أصدره في 4 نيسان 2020، القيام بصلوات الأسبوع العظيم المقدَّس مع الإبقاء على الأبواب مُغلَقَة، أي من دون مؤمنين حاضرين في الكنيسة، والاكتفاء بالكاهن والمرتِّل والقندلفت (خادم الهيكل). إلى هذا، شجّعت كنيستنا المقدّسة على أن يتمّ نقل الصلوات عبر الوسائل التكنولوجيّة الممكنة والمُتاحة.
لا حربَ شيطانيّة مشنونة على الكنيسة كما يدّعي بعض المتزمّتين. إلّا أنّ عدم حضور المؤمنين، وهو قرارٌ حكيمٌ جدًّا من السُّلطة الكنسيّة، وضعَ المُصَلِّينَ في حالةِ تساؤل. مِنهُم مَن رَحَّبَ بِالفكرة وبأنَّ الكنيسةَ تهتمُّ بصحَّةِ البشر الجسديَّة كما الرّوحيّة، ومنهم مَن اتَّهَمَ الإكليروس بأنَّهم غير مؤمنين لأنَّهم يقولونَ إنَّ الله هو طبيب النفوس والأجساد لكنَّهم يتصرَّفونَ عكس ما يعلِّمون.
شخصيًّا، كإكليريكيٍّ، كاهنٍ، أَثِقُ بالمَسيحِ رَبِّي، الَّذي قالَ للشَّيطان: «لا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إلهَكَ» (متّى 4: 7)، كما أَثِقُ بأنَّ المَسيحيّ خصوصًا هو من «أولادِ الطَّاعة» (1بطرس 1: 14)، هذه الطَّاعة التي تقع في أعلى سلّم الفضائل، والّتي تقدَّسَ كثيرون بواسطتها. إذًا، طاعتُنا للكنيسةِ، هي طاعتُنا للمسيح، لأنَّ الكنيسة في عقيدتنا هي جسدُ المسيح.
والنَّاحيةُ البشريَّة، الموجودَةُ أيضًا في شخصِ الكاهن، فتُعاني مزيجًا مِنَ المشاعر حاليًّا: مِنَ التنمُّر (Bullying) الذي يعانيه الكاهِنُ عبر وسائل التواصُل الإجتماعيّة، خصوصًا مِنَ الجماعات التي تُعارِضُ موضوعَ الطّاعةِ للكنيسة. هؤلاءِ، يقذفونَ الكهنة بشتّى النُّعوتِ، والمؤسِف استخدامهم آياتٍ من الكتابِ المقدَّس، مسلوخَةً من سياقِها النَّصِّي، ليدعموا آراءَهم، وأشهر تلك الآيات: “كلُّ ما قالوا لَكُم أن تحفظوهُ فاحفظوهُ وافعلوه، ولكن حسبَ أعمالِهِم لا تَعمَلوا، لأنَّهم يقولونَ ولا يَفعَلون» (متّى 23: 3). المؤسِف أكثر، أنَّ البعض يؤخَذُ بِالكلامِ السَّيِّئ عَنِ الكهنة، فتبدأ التعليقات المُجَرِّحَة وكَيلُ الشَّتائِم… وما على الكاهِنِ إلَّا الاحتمالُ والصَّلاة.
نَعي أنَّ هذه المشاعرَ لم تولَدْ بسببِ قرارات الدّولة أو الكنيسة، بل بسببِ وباءٍ طارئٍ، غيرِ منظور، زارَنا فكانَ زائرًا ثقيلًا. أيضًا، علينا ككهنةٍ، ألَّا نعتادَ على واقعِ الكنيسةِ الفارغة، ولا أن تدغدغنا فكرة الظهور الإعلاميّ الدّائم عبر وسائل التواصل، حيث “الجمهور العريض”، إذ لا غِنى عَنِ التَّواصُلِ البشريّ، حتَّى ولو تكرَّسَ مبدأ “التباعد الإجتماعيّ” بسبب الوباء، ولا غنى عن التعب الجسديّ في الكرازة بالمسيح، بعيدًا من الجلوس خلف الشاشات براحةٍ تامّة. في النهاية، أتمنَّى شخصيًّا أن تمنعَ السُّلطَةُ الكنسيَّةُ، بعد زوالِ الوباء، لفترةٍ على الأقلّ، كُلَّ نَقلٍ مباشَرٍ للصلواتِ والقداديس عبر وسائل التواصل، لكي يعود المؤمنون إلى الصلاة الفَرديَّة الّتي ربَّما تغافلوا عنها بسبب التكنولوجيا. كما أن تمنع كُلَّ ظهورٍ لِكهنةٍ عبر الوسائل نفسِها، لكي نعودَ إلى السكَّةِ الصحيحة المنبثقة من الفكر الإكلزيولوجيّ (الكنسيّ) القائل إنَّ الكنيسة هي جماعة المؤمنين المتحلِّقة حول الكأس الواحدة في الإجتماع الليتورجيّ، وعندئذٍ يُغَربَلُ المؤمِنون بين فئتَين: الحقيقيُّونَ الّذين سيهرعونَ إلى الكنيسة، والمؤمنونَ “بالإسم” الّذين أساءوا إلى الكنيسة بالكلامَ عليها وعلى الكهنة، وطالبوا بعدم إقفال الكنائس، وهم أنفسهم سيبقون في منازلهم مثلما كانوا في سابقِ عهدهم.
(*) كاهن في أبرشيّة الروم الأرثوذكس في بيروت