في خضم الحراك المدني الذي يحرك المشهد السياسي الراكد، تبدو الكنيسة المارونية مترقبة ومتابعة لا اكثر. يستعيد احد المفكرين تجربة لاهوت التحرير في اميركا اللاتينية. ففي ستينيات القرن الماضي، ارتدت الكنيسة الكاثوليكية في اميركا الجنوبية ثوب الفقراء والمحرومين بعدما اعتبرت انه «الثوب الحقيقي للسيد المسيح
تجربة الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا مختلفة كليا لا بل انها وقفت ضد ما سمي حينها «لاهوت التحرير» واعتبرته عدوا لها. يلاحظ هذا المفكر ان البابا الحالي فرنسيس الاول يعيد بسلوكه، القريب من الفقراء والبعيد عن المظاهر الفارغة، بعض وجوه «لاهوت التحرير». لكن الكرسي الرسولي في روما يبقى هو نفسه والبطريرك بشارة بطرس الراعي «ربيبه
في كل حركات ما سمي «الربيع العربي» في بعض الدول العربية، وبصرف النظر عما أدت اليه من المزيد من الفوضى واستشراء الفساد بدل القضاء عليه ونخر أسس الدول، وقف الفاتيكان دائما مع السلطة، اي الدولة القائمة. قد يدعم مطالب الشعوب بالكلام والخطابات، ولكن سياسته الخارجية تملي عليه ان يقف في صف الانظمة والسلطات المرعية
من هذه الزاوية ربما يمكن فهم سلوك الكنيسة المارونية حيال الحراك الحاصل في لبنان. ففي عظاته وكذلك في بيانات المطارنة والقمة المسيحية الاخيرة التي عقدت في بكركي، يضرب البطريرك الراعي «ضربة على الحافر وضربة على المسمار». يعطي الناس الحق في التعبير، متحسسا اوجاعهم ومعاناتهم المتراكمة على مدى سنوات، وفي الوقت نفسه يعطي الدولة الحق في ضبط اي خروقات من شأنها ان تهدد السلم الاهلي، ولو كان الناس في الشارع يطالبون بـ «نفض السلطة برمتها ساسة ورجال امن وكل رموز السلطة الحالية». كما انه يدين العنف المفرط من جانبي القوى الامنية والمتظاهرين على حد سواء
تنظر اوساط كنسية الى الحراك الحاصل في بيروت على انه «ظاهرة صحية للمجتمع المدني ان يعبر بكل حرية، لكن ما نخشاه هو المشاكل التي تنتهي اليها الامور. فالمطالب بدأت بالنفايات وكبرت كرة الثلج، وهذا ما احدث ضياعا نأسف له. الامر الذي سمح لاناس بأن يدخلوا على الخط ويخربوا او يستغلوا». وتتابع: «حبذا لو يأخذ هذا الحراك مداه الصحيح، فالناس تتلوى من وجعها ولم تعد قادرة على التحمل. صحيح ان هناك مخاطر في هذا الحراك، لكن يجب الاستفادة ايضا من وجهه الايجابي. هناك اناس يعبرون بحق وبحرقة ويطالبون بحقوقهم كمواطنين لبنانيين، ولكن المشكلة في المندسين
ليس لدى هذه الاوساط اي معلومات عما اذا كانت بعض الجمعيات تدار فعليا من احدى السفارات الغربية او ما شابه، لكنها تتوقف مطولا عند مسألة «المندسين» معتبرة ان هذا يوجب العمل على «ايضاح الرؤية والاتفاق على اهداف موحدة. فحراك كهذا لا يجب ان يسير من دون بوصلة وانما يحتاج الى قيادة ممثلة بقائد واحد او بمجلس قيادي لكي تكون مدركة جيدا الى اين هي ذاهبة والى اين تأخذ الناس الذين يسيرون خلفها، فتكون بالتالي قادرة على الامساك بكل مفاصل التحرك فتمنع اي محاولات للتخريب او لحرف الحراك عن اهدافه، كما حصل في الكثير من الدول العربية
في الشق الرئاسي، وجهت اكثر من شخصية السؤال نفسه الى بكركي: «هل قصدتم في بيان المطارنة ان رئيس الحكومة يطرح نفسه البديل الشرعي لموقع رئاسة الجمهورية الشاغر؟»، تجيب الاوساط نفسها: «لا يحاول احد الصيد في الماء العكر. فالبيان واضح ولم يسم احدا، وانما كان المقصود ان كل وزير اليوم وكل تيار او كل حزب يطرح نفسه، يتصرف وكأنه يقدم نفسه البديل الشرعي لرئيس الجمهورية وهنا تكمن الخطورة
المشهد المعقّد الذي وصلت اليه البلاد، ولا سيما الشغور الرئاسي، يتحمل البطريرك الراعي جزءا من مسؤوليته برأي البعض. يقرأ هؤلاء ان الخطورة الحقيقية تكمن في الطلب الواضح الذي صدر عن القمة المسيحية الاخيرة بـ «انتخاب رئيس فورا» اي «بما يتيسّر». يتساءلون: «هل كان الوضع وصل الى هنا لو ان البطريرك جارى الرئيس سعد الحريري عندما صرّح انه يسير بعون رئيسا اذا وافق الراعي؟ ألم يكن قد وضع لبنان في حياد ايجابي جنّبه الشغور الرئاسي الذي يزيد في اهتراء وضع الدولة؟».