ينظر الجميع إلى المرحلة المقبلة على أنّها مرحلة تثبيت الأحجام والأوزان داخل النظام اللبناني، وتدخل الكنيسة عاملاً أساسياً في صلب اللعبة الداخلية على رغم إصرارها على الابتعاد عن التفاصيل والمسائل الضيقة.
يعيش مسيحيّو لبنان حالاً من التحرّر الديني مرتبطة نوعاً ما بتأثرهم بأوروبا منذ القدم، إلّا أنّ الكنيسة المارونية خصوصاً تملك تأثيراً كبيراً في الحياة الاجتماعية والتربوية والاستشفائية والسياسية، وما زال الرابط مع أوروبا هو رابط ديني على رغم أنّ «القارة العجوز» إتّجهت نحو العلمنة.
ودليل على هذا الرابط، فإنّ الابتعاد عن ممارسة الطقوس الدينية في أوروبا لفَح مسيحيّي لبنان بنحو أو بآخر. وبالتالي، عندما تقترب أوروبا من الدين مجدّداً سيعود مسيحيو لبنان الى طقوسهم، من هنا يبرز عمق الروابط والتأثير.
يرتبط مسيحيّو لبنان عضوياً بالكنيسة مهما ابتعدوا عنها إيمانياً، فلا يخلو أي شهر من زيارة «خوري الضيعة» الى المنازل، ومن جهة ثانية فإنّ معظم أولاد المسيحيين يتعلمون في المدارس والجامعات التابعة للرهبانيات وهم على احتكاك مباشر مع الإكليروس، إضافة الى أنّ أهم المستشفيات هي تحت إدارتهم، وهناك شرائح كبيرة من المزارعين تعمل في أراض تملكها الكنيسة والرهبنة وفقاً لنظام «الحصّة».
لذلك، يطالب المسيحيون الكنيسة والرهبان بالتحرّك ومراعاة أوضاعهم بدلاً من مطالبتهم الدولة، التي يدفعون الضرائب لها، بالخدمات الأساسية.
لا يمكن فصل الحياة الإجتماعية عن الحياة السياسية في لبنان، لأن التداخل كبير. وكما يؤثّر الكهنة والرهبان في الناس، يتفاعل الإكليروس مع الشعب ويدخل في تفاصيل الحياة اليوميّة. ويزيد التأثير عندما يتناغمون مع السياسيين في لحظات تاريخيّة معيّنة، لأنّه نادراً ما يتوحّد المسيحيون بقيادة الموارنة في لبنان.
لا ينكر أحد النبض المسيحي العام الذي شهده لبنان في السنة الماضية، فحتى المطارنة من بقية المذاهب المسيحية باتوا يتحدّثون بالنبرة المارونية الثورية والوجودية، لأنّ الخطر اقترب منهم وذاقوه في سوريا والعراق خصوصاً، ولا بديل عن الحفاظ على الوجود إلّا من خلال التجذّر بالأرض.
إشكاليات كثيرة تطرح قبل الانتخابات النيابية، وأبرزها دور الكنائس عموماً وتأثير الكنيسة المارونية خصوصاً في مجرى العمليّة الإنتخابية، ويسأل كثر عمّا إذا كنّا سنشهد بياناً مماثلاً لبيان البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير عشيّة انتخابات 2009، والذي قال فيه: «إذا فازت «8 آذار» فإنّ هناك خطراً وجودياً على لبنان».
أو عمّا إذا كان تمثال سيدة حريصا سيستدير نحو اللوائح المدعومة من العهد وتحالف «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» مثلما استدار نحو لوائح «الحلف الثلاثي» عام 1968؟
وعلى رغم تأكيد الكنيسة المارونية أنها لا تتدخل مع أحد ضد أحد من أبنائها، لكنّها لا تنكر حجم التعبئة المسيحية العفوية التي تحصل، بسبب ردّة الفعل التي حصلت نتيجة إبعاد المسيحيين عن الدولة والحكم منذ 1990، وكذلك لا يمكن المرور مرور الكرام على كل ما شهدته الساحة المسيحية من تحولات لا يمكن إغفالها.
في كل منطقة مسيحية هناك نبض ومباركة لِما حصل أخيراً، وهذا الأمر لا تنكره الكنيسة، كذلك فإنّ المطارنة لا يستطيعون إلّا أن يباركوا الخطوات التي حصلت ويدعمون رئيس الجمهورية.
فدعم الرئاسة من ثوابت الكنيسة وهذا ما كان يحصل سابقاً، لكنّ الفارق هذه المرّة أنّ الرئيس ميشال عون يملك قوة تمثيل على الأرض إرتفعت بسبب تحالفه مع «القوّات» وانتخابه رئيساً للجمهوريّة. من هنا يظنّ البعض أنّ الكنيسة تقف مع اللوائح التي سيدعمها العهد، بينما الحقيقة هي أنها تقف مع رئاسة الجمهورية والمؤسسات.
وفي المقابل تؤكّد الكنيسة أنها لا تستطيع أن تقف في وجه الموجة المسيحية، خصوصاً انها ما زالت على السكّة الصحيحة وتتجه نحو إعادة العمل بالمؤسسات، كما حصل في الرئاسة الأولى، وتحاول تصحيح الخلل في التمثيل المسيحي والوطني.
من هنا يبقى السؤال: هل سيخرج البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ببيان دعم للوائح المؤيّدة للعهد ويعطي مؤشّراً الى ميول الكنيسة مثلما فعل البطريرك صفير عام 2005 عندما خرج بعد انتخابات جبل لبنان وفوز لوائح عون قائلاً: «والآن بات لكلّ طائفة زعيمها»؟. كلها أسئلة يبقى الجواب عنها رهن الكنيسة.
وفي هذا الإطار تؤكد مصادر كنسيّة أن «العلاقة بين الراعي وعون أكثر من ممتازة، وعون لا يحتاج دعم أحد، فالكنيسة تدعم رئاسة الجمهورية وبقية المؤسسات لأنّ وجودها ضمان للدولة، وهي مع أيّ أمر يقوّيها، لكنها لا تتدخل في الزواريب السياسيّة، لأنّ الانتخابات والتعيينات وتسمية الوزراء والأمور الشبيهة بها مُناطة برجال السياسة والأحزاب، ولا دخل للكنيسة فيها، وهي لا تقف مع فريق ضدّ آخر، لكن في المقابل لن تسمح بتطويق العهد وعَزله وإضعافه».