IMLebanon

إيمان الكنيسة المعلّق على تدابير كورونا و«أنا الأمّ الحزينة»

 

منذ انتشار وباء كورونا، والمؤسّسات الدينية على اختلافها تواجه الخشية من انفراط عقد أتباعها وولائهم إذا التزموا الامتناع عن دور العبادة، في وقت تتشدّد فيه السلطات الزمنية بمنع التجمّعات. حيث القانون هو الأعلى مرتبةً، سواء في دولة إسلامية أو تلك التي تختلف فيها أهمية الكنيسة وحضورها في المجتمع، تمنع السلطات الرسمية التجمّعات والاحتفالات الدينية، من دون السماح لرجال الدين بعرقلة الإجراءات. في الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، لم يكن منع التجمّعات والاحتفالات الدينية مُحبّباً. في دول تحتلّ الكنيسة فيها مرتبة أولى كإيطاليا وروسيا واليونان ودول أميركا اللاتينية، كما فرنسا وألمانيا التي تحضر الكنيسة بقوة فيهما رغم علمانية الدولة، فُتح النقاش ولا يزال حول تأثير إقفال الكنيسة على علاقتها بالمؤمنين. في ألمانيا، حيث الكنيستان الكاثوليكية والإنجيلية فاعلتان، أُجريت دراسة عن مدى التزام المؤمنين بالإجراءات، ما برز فيها أنّ في موازاة الانقطاع عن الكنيسة، تضاعفت نسبة المساهمات المالية والمساعدات الإنسانية في مرحلة الوباء. ورغم فاعلية الكنيسة في روسيا، إلّا أنّ القرار الفعلي ظلّ للسلطة الرسمية، في حين يحتدم النقاش في كلّ مناسبة دينية بين الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان والحكومة والإعلام. أحد الصحافيين اليونانيين سأل هل «إيمان أتباع الكنيسة هشّ إلى هذه الدرجة حتى لا يصمد أمام إقفال الكنيسة؟ ألا يجب أن يُصبح أقوى في أوقات الشدّة، كما تقول العظات منذ مئات السنين؟». في المقابل نشر استطلاع لـ«pew research center» الأميركي عن تأثيرات كورونا في عودة الناس إلى معتقداتهم الدينية، أظهر أنّ 28 في المئة من الأميركيين البالغين قالوا إنّ مرحلة الحجر وانتشار المرض عزّزت إيمانهم. وهذه النسبة مرتفعة جدّاً قياساً إلى بريطانيا أو اليابان مثلاً.

 

في لبنان، ظلّ النقاش منذ اللحظة الأولى حول القربان المقدّس والمآتم والقداديس، التي لا يزال عدد من الكهنة يخرقون الإجراءات في مرحلة الإقفال التامّ لإجرائها. لا يتعلّق النقاش بالمردود المالي، لأنّ المساعدات المالية مستمرة، بل حول فكرة «النبع» الذي يقصده الناس، وتفتيشهم عن نبع آخر، إذا ما أُوصد الأول في وجههم. فمع مرور الوقت، سيبتعد الناس أكثر فأكثر عن الدائرة المركزية. وهذا أمر لا تُحبّذه السلطات الكنسية روحياً وسلطوياً، رغم أنّه في لبنان بقيت فكرة الحجّ الديني إلى مزارات القدّيسين ناشطة تُعوِّض بعضاً من الارتباط العضوي بالكنيسة. لكن فكرة الالتزام الديني تؤرق رجال الدين بالمعنى المؤسساتي. فالاثنين المقبل، مثلاً، يبدأ زمن الصوم لدى الطوائف التي تعتمد التقويم الغربي. في الكنيسة المارونية، يبدأ الصوم برتبة الرماد المقدس، التي يُذكّر فيها الكاهن المؤمن وهو يضع رماداً مقدّساً (وهي رتبة غير تقليدية مأخوذة من العهد القديم وتعتمده الكنيسة اللاتينية) على جبينه «أنت من التراب وإلى التراب تعود». في زمن الكورونا، أعلنت البطريركية المارونية، ورغم استمرار مرحلة الحجر والإقفال، وجوب فتح الكنائس لرتبة الرماد «بمن حضر»، وهذه العبارة تعني أنّ الكنائس ستعجّ «بالمؤمنين» الذين لن يكتمل صيامهم و«توبتهم» من دون صليبٍ بالرماد على جباههم، علماً بأنّ الرتبة ليست لاهوتية بالمعنى الحرفي. الإجراء البطريركي بما حمل من تدابير نافرة واستعمال عيدان الرماد وحرقها وما إلى هنالك، يدلّ على أنّ إبقاء الرابط قائماً بين السلطة والفرد هو المغزى، وليس جوهر الإيمان المسيحي، حتى لو على حساب الإجراءات الصحية.

 

عدا عن هويّة الراحل سياسياً وثقافياً، خلق مكان المأتم في حدّ ذاته إشكالية لمطران بيروت

 

 

وإذا كان وباء كورونا قد خلق هذا الفزع الكنسي من الهوّة بينها وبين المؤمنين، فإنّ جانباً آخر ظهر في اليومين الماضيين يتعلّق بموقع الإيمان الكنسي في الإطار السياسي بما يُذكّر بمراحل ظلامية العصور الماضية. فكنيسة تتبرّأ من الصلاة لا تُشبه كنيسة ميشال حايك، وإقامة الصلاة الجنائزية وهي ليست سرّاً كنسياً، واجبٌ أخلاقي وديني، بغضّ النظر عمّن يقوم به، كما كان يحصل في الحروب. ما أُثير بعد مأتم الراحل لقمان سليم، مثالٌ على ما تُريد بعض المؤسّسات الدينية تفريغ الإيمان من معناه الحقيقي وإسقاطه لمصلحة علاقتها بالسياسة المحلية، فيُصبح أداؤها نافراً وفجاً، في حين يُعطي رهبان نموذجاً عن روح رهبانية افتقدناها منذ زمن طويل. واغتيال سليم على يد هذه المؤسسات في الشكل الذي جرى بعد المأتم يُشبه تماماً اغتياله بالرصاص. إذ حين يغلب «الفزع» من أداء الصلاة، فهذا يعني أنّ «الإيمان المسيحي باطل». إذ ليس إيماناً مسيحياً، حين يُشهر مطران كراعي أبرشية بيروت للموارنة، بولس عبد الساتر التزامه السياسي قبل الديني، كما فعل بدوره الشيخ علي الخليل الذي اعتذر عن تلاوته الصلاة تحت ضغط الحملة عليه، أو حين يتحوّل مناصرو التيار الوطني الحر إلى حاملي فتاوى دينية بتوجيه من كهنةٍ يدورون في الفلك نفسه، ضدّ كهنة ورهبان شاركوا في الصلاة. ولم يكن من الضرورة أن يتبرّأ عبد الساتر من أمر لا علاقة له به، لأنّ أي كاهن يستطيع إقامة الصلاة وترؤّس رتبة جنازة من دون إذن المطران، فالرتبة ليست سرّاً كنسياً يحتاج إلى موافقة. كما أنّ الرهبان لا يستأذنون المطران مهما كان شأنه لأنّهم يتبعون رهبانيتهم. ولو لم يكن الأمر لدواع سياسية افترض عبد الساتر وهو الذي بدأ يُعارض البطريرك الماروني جدّياً (حتى إنّه منع فتح الكنائس في أبرشيته يوم اثنين الرماد) ويطمح إلى خلافته، أنّ حزب الله سيكون مستاءً من المشاركة، لما قام بما قام به. فعدا عن هويّة الراحل سياسياً وثقافياً، خلق مكان المأتم في حدّ ذاته إشكالية لمطران بيروت، علماً بأنّه عام 2009 حدثت واقعة في كنيسة مار يوسف حارة حريك حين صوّر فيديو دعائي لفرقة إنشادية تُمجّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، برعاية كاهن الكنيسة المُقرّب من التيار الوطني الحر. بعد الضجّة التي أُثيرت، حاول الكاهن رمي التهمة عنه وكذلك فعل مقرّبون من «الحزب» وسُحب الفيلم الدعائي من التداول بتدخّل من قيادة حزب الله رسمياً.

أمّا الانتقاد الممجوج لاستخدام ترتيلة أنا الأمّ الحزينة من جانب «الغيارى من المسيحيين» على الإيمان والكنيسة، والذين صودف انتماؤهم إلى فئة سياسية واحدة، فنموذج فاقع عن «الغلاطيين الأغبياء» الذين تحدّث عنهم مار بولس، ولا سيما أولئك الذين انتقدوا أيضاً أن تُرتّل في حضرة أمّ قبطية وليست «مارونية»! فالترتيلة ليست لاهوتية، إنّما سريانية شعبية تقليدية قديمة، لعلّ فيروز أعطتها بُعداً بصوتها وأدائها وجعلت منها أنشودة الألم والحزن للأمّهات الثكالى المتّشحات بالسواد أيام الحرب، تماماً كالسيدة سلمى مرشاق سليم.