الزيارة التاريخية والأولى من نوعها التي يقوم بها الحبر الأعظم البابا فرنسيس الى دولة الإمارات العربية المتحدة منذ 3 شباط الجاري وتُختتم اليوم بقدّاس يُشارك فيه 135 شخصاً من الجاليات المسيحية المقيمة فيها، وذلك في الملعب الكبير في أبو ظبي، تحمل عناوين عدّة منها: ترسيخ مبادىء التسامح العالمي، تعزيز كونية القيم الإنسانية، مدّ جسور الحوار الحضاري، والأهمّ دعم مبادىء التعايش السلمي… وقد قام خلالها قداسة البابا بزيارة الكنيسة الكاثوليكية في الإمارات وشارك في حوار ديني مع شيخ الأزهر ومسؤولين دينيين آخرين بعنوان «لقاء الأخوة الإنسانية».
هذه الزيارة التي لاقت ترحيباً كبيراً من حاكم دولة الإمارات والقادة السياسيين، فضلاً عن الجاليات الأجنبية المسيحية فيها، قابلتها غصّة في نفوس المسيحيين في لبنان الذين كانوا يأملون أن يزورهم البابا فرنسيس لا سيما بعد كلّ ما عاناه مسيحيو الشرق في السنوات الأخيرة، وانعكس سلباً على البلد ككلّ. فمعاناة المسيحيين في العراق وسوريا ومصر خضّت مسيحيي المنطقة بشكل عام، وجعلت الشباب المسيحي في لبنان يفكّر في الهجرة بحثاً عن لقمة العيش، بعد شعوره بأنّ هذا البلد لم يعد له.
وإذ كتب البابا في حسابه عبر «تويتر» قبيل انطلاق طائرته الى الإمارات «أزور هذا البلد كأخ، لنكتب صفحة حوار معاً، ونمضي معاً في مسار السلام»، يقول مصدر كنسي بأنّ الأهمية الكبرى لزيارة قداسته الى الإمارات تكمن في فتح هذه الصفحة بين المسيحيين والمسلمين لا سيما بعد لصق صفة الإرهاب بالمسلمين. فالعلاقة بينهما ساءت كثيراُ في الفترة الأخيرة بسبب ما تعرّض له مسيحيو منطقة الشرق الأوسط من اضطهاد وتنكيل وتهجير وتشريد وقتل وتفجيرات طالتهم أينما هم. ولهذا كان لا بدّ من قيام الحبر الأعظم بهذه الزيارة لرأب الصدع أولاً، وللحوار ثانياً من أجل تحقيق السلام، فضلاً عن تحسين صورة الإسلام في العالم الذي بات موصوماً بالإرهاب.
ويضيف أنّ فتح هذه الصفحة الجديدة بين المسيحيين والمسلمين من الإمارات، برضى سعودي بطبيعة الحال، على غرار انفتاحها على سوريا بتشجيع سعودي أيضاً، قد أظهر مدى الإنفتاح العربي على الكنيسة الكاثوليكية في العالم، وإنهاء حالة التعصّب التي تبديها بعض الدول العربية تجاه المسيحيين، إذ تسمّيهم «الكفّار» أو الكافرين». علماً أنّ الإسلام، بشكل عام، بات مصدر شكّ وقلق لدى غالبية دول العالم، لا سيما منها الدول الأوروبية التي استضافت عدداً لا بأس به من النازحين السوريين والمهاجرين، وذلك نظراً لارتباط عناصر التنظيمات الإرهابية بهذا الدين، وادعائهم بأنّهم يُطبّقون تعاليمه من خلال فرض مجموعة من القوانين، وقتل المسيحيين، على ما سبق وأعلنوا، كونهم لا يوافقونهم في الرأي والمعتقد.
ولأنّ لبنان معروف في منطقة الشرق الأوسط بأنّه بلد التعايش بين الأديان، إذ يضمّ 18 طائفة، كان يتمنّى لو أنّ «صفحة الحوار الجديدة بين المسيحيين والمسلمين نحو السلام» قد انطلقت منه، غير أنّ معطيات عدّة حالت دون زيارة قداسته للبنان. وأمل أن يقوم المسؤولون في لبنان بدعوة البابا فرنسيس لزيارته، بعد ولادة الحكومة الجديدة وتحسّن الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية فيه، بهدف استكمال هذا الحوار، وخصوصاً أنّ لبنان هو «بلد الرسالة»، على ما وصفه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني.
والأهمّ أنّ زيارة البابا الى الإمارات، على ما أكّد المصدر نفسه، قد هدفت الى «تثبيت المسيحيين في الشرق»، لا سيما بعد المحاولات التي شهدتها دول المنطقة أخيراً حول تهجير مسيحيي العراق وسوريا ومصر وتشتيتهم، بهدف إبعادهم عن المنطقة ولكي يندمجوا أو يذوبوا في الدول الأوروبية. غير أنّ الأرض التي وُلد فيها يسوع المسيح، لا يُمكنها أن تخلو من المسيحيين، ولهذا أتت الدعوة من قداسته بضرورة التمسّك بالأرض والجذور وعدم ترك المنطقة للديانات الأخرى، حتى ولو كان في التنوّع غنى للبلدان التي تحتضن عدة طوائف.
في الوقت نفسه، يرى المراقبون أنّه من بين مليون مسيحي يعيشون اليوم في الإمارات، جميعهم من الأجانب بطبيعة الحال، فإنّ عدد الذين سيُشاركون اليوم في قدّاس الحبر الأعظم، لن يتعدّى المئة وثلاثين ألف شخص. وهذا العدد على قلّته، نسبة الى الدول المسيحية الأخرى التي يزورها البابا ويلتقي خلالها ملايين المسيحيين، مهم جدّاً كونه يُظهر عيش هؤلاء لحريتهم الدينية في بلد إسلامي كان لعهود طويلة منغلقاً على نفسه. أمّا اليوم، فثمّة ثماني كنائس كاثوليكية في الإمارات يحتفل فيها المسيحيون المؤمنون بالقداديس التي تجمع فيما بينهم، وإن كانوا بعيدين عن أوطانهم الأمّ، فضلاً عن أربع أخرى في كلّ من الكويت وسلطنة عمان واليمن، وواحدة في البحرين، وواحدة في قطر.
وفي رأي المصدر الكنسي نفسه، فإنّ قبول سلطات الدول العربية التي هي إسلامية بغالبتها بناء كنائس للمسيحيين فيها لكي يُمارسوا شعائرهم الدينية ويحتفلون بالذبيحة الإلهية، إنّما يدل على منعطف مهمّ وتغيير جذري في التعاطي مع أبناء الديانة الأخرى. وهذا الأمر بحدّ ذاته، جيّد جدّاً، ولهذا يجب البناء عليه لمستقبل أفضل. ولهذا وجد البابا فرنسيس أنّه بإمكانه الإنطلاق من هذه الدول ذات الغالبية الإسلامية. وقدّمت الإمارات نفسها لقداسته على أنّها «مكان لثقافة التسامح بين الأديان المختلفة» كونها تسمح بممارسة الشعائر الدينية المسيحية في كنائسها، ولهذا ارتأى البابا أن يلاقي التسامح بتسامح مماثل، ولعلّ هذا ما تحتاج اليه شعوب دول المنطقة.
وتقول أنّ زيارة الحبر الأعظم للبنان من الممكن أن تحصل، إذا ما أصبحنا مهيّئين لها، وقمنا بدعوة قداسته لزيارتنا، سيما أنّ لا مانع لدى قداسته من زيارة دول المنطقة التي بدأها بزيارة كل من الأردن وفلسطين المحتلّة في 24 و25 أيّار من العام 2014، ثم زار مصر في 28 و29 نيسان من العام 2017، وهو اليوم في الإمارات، على أمل أن يقوم بزيارة تاريخية للمغرب في آذار من العام الحالي أيضاً. وإذ ينوي البابا فرنسيس تجسيد الحوار بين الأديان ونشر التسامح والإعتدال والمحبّة في العالم، لا بدّ وأن يزور لبنان عندما تتوافر كلّ الظروف المؤاتية لها، كونه البلد النموذجي لتعايش الأديان في المنطقة.