هل هو عقاب من الله أم من البشر؟
صلوات وترانيم وتضرعات في كلِ مكان، حتى الملحدون عادوا يبنون “صلات” مع السماء، مع الغيب، مع خالق الأرض والسماوات. أمرٌ ما قد تغيّر، أبعد من كورونا وأعمق من الوباء وأكبر من كل الخوف، الذي يجتاح لبنان ومن فيه، على جنى العمر وعلى أحباء. فهل أتى كورونا ليعيد البشر الى الدين أم فعلت السماء فعلتها لتُعيد البشر الى الخير؟ وهل الربّ يُجرّب البشر أم البشر هم من خربوا الأرض؟ في أسبوع الآلام والقيامة نترك رجال الدين، على إختلاف مللهم، يتحدثون عن هذا التغيير الهائل الذي يرونه في عيون المؤمنين.
لفترةٍ من الفترات عانى كثيرون من أفكارٍ لاعقلانية، وخطر في بال الكثيرين خوف هائل من الإحتضار، وبالغوا في الهلع من غدٍ بات أكثر ظلامة ومن مستقبل حدوده حدود البيت. فهل أتت النهاية؟ هل هذا الوباء شرّ مطلق؟ وأين هو الله من كل شيء؟ أليس هو الخالق الكلي القدرة والمتحكم والمشرف على الكون؟ هل يرضى أن يهلك “كونه”؟ هل الله يُجرّب البشر؟ هل معقول أن يجرّب الله من افتدى بابنه يسوع من أجلهم؟ نكفر أكثر أم نؤمن أكثر؟ نبتعد عن الدين أكثر أم نعود إليه مجدداً؟ هناك من ابتسم ساخراً حين سمع أن القديس شربل قام بأعجوبة وهناك من ذرف الدمع مع كثير من الإيمان وصلى. الناس طبائع. الإيمان نسبي. والحياة، لكثرة ما أصبح فيها من تفاصيل أخذت المؤمن من كنيسته وجامعه ومعبده. تغيّر الكون في الألفية الجديدة لكن منذ بدأت 2020 عاد و”تشقلب” الكون رأساً على عقب على رؤوس الكثيرين محدثاً تغييراً بدأت معالمه. فهل الإرتداد الى الدين أحد معالم التغيير؟
فلنبدأ من فوق، من جبل عنايا حيث يرقد جثمان القديس شربل ويزحف المؤمنون وتتمّ العجائب. الكاهن لويس مطر، ينظر حوله، الى الكنائس الفارغة من المؤمنين لكن المليئة بحرارة إيمان غاب لوهلة، لفترة، ظنناها ابدية وعاد بدفق ويقول: رجع المؤمنون في هذه الأيام الى القديم، حين لم يكن هناك فرق بين الكنيسة والبيت. وكان في كل بيت مذبح ومصلوب وعذراء وشفيع. وكان الأب يقرأ الإنجيل ويفسره لأولاده ويتلون معاً صلاة المسبحة وطلبة العذراء ويرنمون والزوار كانوا يشاركون. وكانت كل الأسرار من عمادة وزواج وحتى جنازة تتم في البيت. وكانت الكنيسة بيت الخوري يزورها المؤمنون في الأعياد والآحاد ويتناولون القربان المقدس ويأخذونه زوادة الى بيوتهم. اليوم، رجعت الكنيسة الى البيت الأصلي حيث ترتفع من كل بيت الصلوات والتراتيل وصلاة المسبحة بعدما كان كثيرون قد ابتعدوا عن الكنيسة والرب. ويستطرد: أصبحنا “نربّح” ربنا “الجميل” بأننا قصدنا بيته يوم الأحد. واتسع الشقاق المكاني والزمني بيننا وبين الرب. لكن، ها قد عادت بيوتنا كنائس، وأصبحت الكنيسة بيت الرب، وكلّ البيوت بيوت الربّ.
جميلٌ هذا الكلام، لكن هل يُجرّب الربّ العباد حين يُخطئون؟ هل الوباء رسالة رادعة من الله؟
القاضي الشيخ خلدون عريمط، رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام، يقول: ما نعيشه اليوم هو حقيقة تاريخية تحدث في الأزمات الكبرى، حيث يتجه الإنسان “فطرياً” الى الخالق، الذي حين خلقه على هذه الأرض أوجده ليقوم بمهمة، ليحمل رسالة، وليس عن عبث، لأن المكان الأساسي للإنسان ليست هذه الأرض وإنما خلق ليحمل رسالة التوحيد والإيمان ومكانه الحقيقي في العالم الآخر. لذلك جاء في القرآن الكريم، ونفس المعنى ورد في الإنجيل والتوراة، قول الله للملائكة: “إني جاعل من الأرض خليفة”. وفي المسيحية قيل: “الإنسان على صورة الله”. ويستطرد عريمط بالقول: قالت الملائكة لله: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسبح بحمدك ونقدس لك؟ فأجاب: “إني أعلم ما لا تعلمون”.
يُدقق الشيخ بكلّ كلمة يتفوه بها ليصل الى اللبّ ويقول: هذا يُفسر ان الله أنذر الإنسان، عبر الإنجيل والتوراة والقرآن والكتب السماوية، ليعودوا الى جادة الصواب، ولعلّ هذه الأوبئة والأزمات إنذار من الله تعالى للبشر من أجل أن يمتنعوا عن الفساد والإفساد وتخريب الطبيعة. وحين شعر الإنسان أن هذا الوباء عالمي تحركت الفطرة الإنسانية فيه وبدأ يعود الى رشده والى جادة الصواب. فها هم المسلمون يعودون الى أصول عقيدتهم وها هم المسيحيون يعودون الى العقيدة التي جاء بها المسيح. وعودة الإنسان في الأزمات الكبيرة الى التدين هي عودة فطرية لاشعورية. وما نمرّ به هو إنذار من الله للإنسان.
هل نفهم من كلّ هذا أن الله قد يصيب الإنسان ببلاء كإنذار؟
الشيخ خلدون عريمط يجزم بأن إنذار الله هو كإنذار الأم التي قد تؤنب طفلها لينتبه أكثر ويتعظ أكثر، والله يُنذر الإنسان، أكان مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو يهودياً أو هندوسياً، ليعود الى حقيقة الإيمان والأصالة وجادة الصواب، خصوصاً بعدما بات هذا الإنسان يؤله نفسه ويبتعد عن الخير وتتحكم به وبسلوكياته وتصرفاته غرائز ليست من شيم الإنسان. الله، كما الأم، يؤنب لكن يبقى رحيماً. الله أكثر رحمة بنا من رحمة الأم على وليدها. لذا أقول، والكلام لعريمط، الله هو من جاء بهذا الوباء وبأمرٍ من الله ينتهي هذا الوباء.
الشيخ طالب لا يرى أبداً أن الناس فقدوا الرابط الديني لأنهم بفطرتهم وعمقهم يعيشون العلاقة مع الدين والرب لكن بطريقة “مجمدة”، وهذا سببه إنشغالات الناس بأمور الدنيا. ودائماً، حين تحدث مشكلة ما يعجز عن حلّها المال يسترجعون العلاقة المجمدة مع الغيب ويتأكدون ان لا شيء سيُنجيهم غير أمر ما خارق. إنهم يرون أساطيل العالم في عرض البحر، لا يوجد من يديرها، ويشعرون ان الحياة محال من دون الإرتباط بقدرة إلهية. وهذا أمر طبيعي، ويحدث عادة مع الإنسان على مستوى فردي، حين تحصل في محيطه حالة مرض أو موت. تحدث لدى هذا الإنسان ما يُشبه الصحوة. واليوم، ما نراه هو صحوة عامة.
هل نفهم من هذا انها صحوة موقتة؟ هي صحوة ستحدث تغييراً إجبارياً، والعالم لن يعود، والكلام الى الشيخ طالب، كما كان. الحياة الإجتماعية ستتغير وطريقة العيش أيضاً وحتى الإيمان سيثبت أكثر من قبل. وهنا دور الدين لاستثمار هذا الوعي من خلال خطاب غير تقليدي، لا يأسر الناس بل ينسجم مع مستوى الناس الفكري ويجري نوع من المصالحة بين العلم والدين من أجل تثبيت وعي الناس أكثر. يضيف المفتي الجعفري: إذا استمرّ بث الخرافات وتعطيل العقل فسيرجع الإنسان الى التناقض السابق ما بين العقل والعلم وسيتراجع عن المصالحة بين الايمان والعلم. المرحلة جدّ دقيقة.
نعود الى السؤال الأول، هل يمتحن الرب الإنسان؟ هل يجوز أن يكون “كورونا” أو أي وباء أو بلاء إمتحاناً أو قصاصاً من الرب؟
على نقيض الشيخ عريمط، يرفض الشيخ طالب القبول بأن “كورونا” هو قصاص من الرب وأن الرب يقاصص حتى لو كان القصاص رحيماً. ويقول: الله لا ينزل أي بلاء على الإنسان. ويستعين الشيخ بمقولة: ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليُذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. ويشرح: لا يأتي الشرّ ابداً من الله بل ما حصل من نتاج البشر وبحث الكثيرين عن المال والسلطة والقوة من خلال أمور غير مشروعة. هذه المدنية غير العاقلة وغير المنطقية أخلاقياً تركت آثاراً على الطبيعة. الله لا ينزل بلاء على طفل. ودورنا كرجال دين تثبيت من ينزل عليه بلاء بما كسبت أيديه ان يبقى واثقاً بربه الذي سيمنحه مناعة وقدرة على الصمود والمواجهة وقد يتدخل من خلال العلم على اكتشاف الحلول.
نعود الى الأب لويس مطر لسؤاله عن دور الرب في ما نشهده الآن؟ هل الله يُجرّب الإنسان؟
يجيب الأب مطر بالقول: نحن، من شوهنا الطبيعة ولوثنا البيئة والشوارع والبيوت ودمرنا طبقة الأوزون، والإنسان وصل حدّ الإلحاد. ومن يكون في مثل هذا الزمان ملحداً فسيضيع ويصل الى ما يُشبه الفراغ، لذا يأتي الإيمان ويفتح آفاقاً جديدة أمامنا. ما نشهده اليوم ليس من فعل الله بل من فعل البشر الذين شوّهوا ما صنعه الله. الوباء أتى بمثابة ضربة مباشرة للعلم، فحواها أن فيروساً صغيراً، تسببنا به نحن بأخطائنا البشرية، بات أقوى مِن مَن يظنون أنفسهم أقوياء العالم. وأتى هنا مارشربل، في أول ردة فعل، بإعادتنا الى الطبيعة والقول لنا أن الطبيعة هي الدواء. مارشربل الذي ظهر على صبيّة قال لها إن العلاج سيكون قليلاً من المياه وبعض التراب وكلنا نعلم أن الفيروسات لا يمكنها أن تعيش في المياه القلوية التي تنشأ عن اختلاط المياه والتراب. تدخل مارشربل ليدعونا أن نعود الى الطبيعة وألا نخالف أوامر الرب.
المسيحيون، كما المسلمون، يعودون اليوم الى الربّ لأن الوجع الكبير يجعل الناس “تكبر” وتتقدس أكثر وترجع للدين والله. وكم هم قلة من يشعرون بإنسانيتهم من دون أن يكونوا قد مروا بوجع كبير. هذا الألم الكبير يجعل الإنسان يشارك يسوع بآلامه ويشعر أكثر بقيمة الحياة والخير والإنسانية.
نقلب في صفحات كتاب سانت ريتا ونقرأ صلاة: في الشدائد والمصائب المؤلمة إني أستغيث بك، أنتِ المدعوة قديسة الأمور المستحيلة، وأملي كبير جداً للحصول بشفاعتك على جميع طلباتي. إنقذي قلبي المسكين المحطم والمحاط بأشواك الشدائد ووفري الراحة والهدوء لأفكاري المضطربة من أهوال الحوادث القاسية. هذه صلاة تعكس كم يكون الإنسان في الشدائد بحاجة الى نِعم من الربّ.
هل ما زال الشيخ خلدون عريمط يرى أن الوباء هو بأمر من الله، والله هو من يأمر متى ينتهي؟
يجيب: كل مولود يولد على الفطرة، إنساناً صالحاً وتأتي البيئة والمجتمع والمحيط ليبدلوه، لهذا كان لا بُدّ من هذه الإنذارات التي تتأتى عن الحروب والأوبئة، المسماة بلايا، ليعود الإنسان الى فطرته الأولى. هذا الإنسان غيّر معالم الطبيعة وأساء لما أراده الله الذي خلق الطبيعة ووازن بين الجبال والوديان والسهول والأنهار والبحار لكن الإنسان أخلّ بالتوازن الذي أرساه الله وأساء لما أراده الله وكان لا بُدّ من جرس إنذار ليعود الإنسان الى فطرته. فها نحن في عالم البقاء فيه للأقوى لا للأصلح، تحوّل فيه الانسان الى وحش مفترس. وها قد اصبح الناس اليوم، بعد كل التظاهر بفائض القوة، متساوين في الخوف والهلع، سواء أكانوا دولاً عظمى أم صغرى، أغنياء أو فقراء. كلهم خائفون من مخلوق صغير، من جرثومة، لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. وهذه معجزة إلهية. وهذا ما دفع الناس الى العودة الى فطرتهم الأولى. هذا جرس إنذار من الله تعالى للأقوياء ليقول لهم: ثمة من هو أقوى منكم جميعاً.
هل هذا الكلام إيذان من رجل ديني أن العالم سيتغيّر؟
الشيخ عريمط يرى ان الإنسان الذي تحول في لحظة من اللحظات الى حيوان ناطق سيرجع الى الرب وسيدرك مقولة “وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا وليس لتأكلوا بعضكم بعضاً وإن أكرمكم عند الله اتقاكُم”. علمنا الإسلام، والكلام لعريمط، أن أحب الناس الى الله أنفعهم للناس، كلّ الناس، وليس الى المسيحيين أو المسلمين او اليهود أو المجوس. والإنسان حين يخالف إرادة الله له عقاب.
ما نراه الآن هو عودة الناس، كلّ الناس، الى الفطرة. بوذا، لمن لا يعرف، كان حين يمشي على الأرض يحرص أن لا يؤذي نملة. كل البشر يجب أن يعتنوا بالإنسان. وهذا ما بدأ الناس يفهمونه من خلال تجربتهم مع الوباء. فالفيروس بلا طائرات ولا مدرعات ولا صواريخ عابرة للقارات عبر من قارة الى قارة الى قارة. وكل العالم وقف عاجزاً.
وما دور رجال الدين المشاركون أحياناً في ما لا يُرضي الله؟
الكاهن لويس مطر يأمل أن يقوم الجميع، في هذه الأيام المباركة، مع المسيح. والشيخ أحمد طالب يقول إننا حين نحكي عن الله لا نحكي عن البعد البشري، فالله أعطى الإنسان كل الضمانات والقدرة على إنتاج الخير لنفسه إذا أراد وأن يبتلي نفسه بالشر إذا أراد “بما كسبت أيديكم” وهم يسلكون أي الطريقين. وعلى رجال الدين واجب تثبيت الناس في طريق الخير. في المقابل يقول الشيخ خلدون عريمط إن على رجال الدين أن يتعظوا وأن يتذكروا أن رجل الدين حين يتحول الى مجرد طبقة لها امتيازات ومنافع لا يعود رجل دين “وأنا واحد منهم”. مهمة رجل الدين الآن أكثر من أي وقت أن يكون في خدمة الناس ويقتدي بالمسيح الذي صلب من أجل البشر وبالنبي محمد الذي عاش فقيراً ومات فقيراً وأن يتذكر مقولة “أيها الناس كلكم متساوون أمام الله” فالناس سواسية كما أسنان المشط فلماذا يتقاتلون ويتحاربون ويأكلون بعضهم بعضاً؟ لعلّ الناس، ورجال الدين ناس، يستفيقون.
كاهنٌ «باسمِ يسوع» على دراجته
رأيناه يوم الشعانين يسرح على دراجة هوائية بين الأهالي، بين أهالي رعيته، يصلي، يرنم، ويوزع الشموع ورأينا الناس تمشي وتتأثر وتصلي بحرارة وهو، يوم الأحد الكبير، أحد القيامة، سرح موزعاً مع الصلوات أوراق الغار والبيض المسلوق. الأب نيكولا رياشي، كاهن كنيسة المخلص في الأشرفية، شكّل ظاهرة إيمانية جميلة في زمن يحتاج فيه المؤمنون الى طمأنينة أكبر وإيمان أبعد بأن الله سيتدخل، في شكلٍ ما، رأفة بالخليقة. فلماذا فعل الأب رياشي ما فعل؟ يجيب: جلّ ما يحتاج إليه الناس اليوم هو سماعهم قول «المسيح قام حقاً قام» وأن المسيح، رمز الإنتصار على الموت، حاضر بينهم. ويشرح: لم أكن أعرف مسبقاً ماذا عليّ أن أفعل، وفي لحظة قررت أن أنزل الى الناس، الملتزمين البقاء في بيوتهم بسبب الأمر الواقع. ورأيت بين المؤمنين الرجل المسن الذي يصلي بحرارة والمرأة التي هرعت بثياب النوم وبالكمامة كي تحصل على شمعة صلاة وورقة غار ورأيت الطفل الذي ركع، في لحظة إيمان، يصلي كما لم يفعل يوماً. مشهدٌ إيماني جميل. ويستطرد بالقول: يصبح الإنسان لحظة المرض والخوف أقوى. يسوع المسيح الذي غلب الخوف والموت يمنحهم القوة على الصمود والمواجهة. يسوع يمنح هؤلاء الفرح والرجاء والأمل.