على صبحية عابقة بدخان سيكار متوهج، قال المدخن الشره لمحدثه «صرت أجلس على شرفة منزلي للاستمتاع بالسيجار بعيداً عن الأعين! وأخشى لو عرف سائق سيارتي كم أدفع ثمن السيجار الواحد فقد يغتالني» يقول ضاحكاً… ضحكة صفراء تعكس أمراً غير طبيعي كما كل شيء في لبنان. وكما لو أنه يبوح بسر خطير قال همساً «أنام على حوالى 80 سيكاراً إشتريتها عالـ 1500». وسعر الواحد منها اليوم أكثر من مليون ليرة بقليل!
كل شيء تغيّر. مدخّن يبتعد وسيكاره عن الأنظار وآخر يستحي إن أقدم على شراء سيجار بمليون ليرة حتى ولو كان قادراً… فيما رفض أحد كبار المستوردين الكلام حول «واقع السيجار». ظروف البلد اليوم غير ملائمة مطلقاً للحديث عن الموضوع.
ما عاد تدخين السيجار في لبنان متعة صرفة ولا جلسة حلوة يستمتع بها عاشقوه، صار تحدياً لظروف البلد وأزماته وإصراراً على التشبث بأسلوب حياة بات على طريق الزوال. غالٍ بلا شك، ومستفزّ للكثيرين في هذه الأيام، لكن تبقى للسيجار هالة من السحر والفخامة تصعب مقاومتها ويبقى رمزاً من رموز الحياة التي ميّزت لبنان أيام الزمن الجميل ولا يزال كل لبناني يحلم باستعادتها. هل يصمد السيجار أمام الانهيار أم يتحول رماداً كما الكثير من رموز العز في البلد؟
قد يبدو الحديث عن السيجار اليوم لزوم ما لا يلزم في زمن العودة الى أقل الأساسيات، لكننا ننكر الواقع ونتنكّر له إن لم نقرّ أن للسيجار عشاقه المولعين به الذين يصرون على شرائه والتمتع بجلساته رغم أنف الأزمة. مبيع السيجار وإن تراجع قليلاً مثل كل شيء في لبنان، لا يزال يشهد إقبالاً ملحوظاً تبرره عوامل شتى. الى مصادر بيع السيجار توجهنا لنعرف واقع هذا الساحر في السوق اللبناني اليوم.
ليس كل انواع السيجار متشابهة، بل هي مقامات كما يخبرنا السيد ميشال أبي رميا، مالك رئاسة بيع لمنتجات التبغ ونقيب مستوردي المشروبات الروحية في لبنان، وأفخره بالطبع السيجار الكوبي اليدوي الصنع لكونه الأكثر تميزاً وطلباً. يتم استيراده الى لبنان عبر وكيله السيد محمد زيدان ويتم توزيعه على التجار عبر الريجي اي إدارة حصر التبغ والتنباك في لبنان. يليه السيجار المصنوع يدوياً في بلدان أخرى مثل الهندوراس، نيكاراغوا، مقدونيا، إيطاليا وحتى مصر. وفي الدرجة الثالثة يأتي السيجار الذي يلف عبر الماكنات في أكثر من بلد ومنها هولندا ويليه السيجاريلّو الذي يصنّع في بلدان عديدة. تختلف أسعار هذه الأنواع من السيجار وفق جودتها (وكذلك وفق طول السيجار ومحيطه) وكلما ارتفع السعر كان ذلك دليلاً على الجودة والنوعية.
السيجارالكوبي الفاخر اليوم في أزمة والسبب خارجي وداخلي. ففي كوبا كان الموسم سيئاً كما يقول أبي رميا فجاء الانتاج خفيفاً كذلك دخلت الصين على خط استيراد السيجار الكوبي فرفعت الطلب عليه بشكل كبير ما أدى الى ندرة وجوده في الأسواق الأخرى. من جهته يشرح السيد جوزيف خوري أحد مستوردي السيجار في لبنان وصاحب محلات Peter Cigar الأزمة الكوبية قائلاً انه بسبب تراجع السياحة في كوبا نتيجة جائحة كورونا وتراجع مدخول العملة الصعبة فيها خفّ إنتاج السيجار في مختلف مراحل دورته من الزراعة الى اللف والتصدير والشحن. حتى أعداد «التورسادور» اي الحرفيين الذين يلفّون السيجار تراجعت من 4000 الى 2000 بسبب هجرة هؤلاء.
بنتيجة هذه العوامل تضاعف سعر السيجار الكوبي من المصدر وندر وجوده. محلياً تسعير السيجار يتم عبر الريجي التي كانت تستوفي 40% من سعره بالفريش دولار و40% بشيك مصرفي و20% على سعر 1500 ليرة للدولار لذلك كانت أسعار السيجار في لبنان منطقية جداً. لا بل إن سياسة الريجي تلك أدت الى وقف التهريب الى لبنان والحد من دخول السيجار المزور. حينها يقول خوري «ورغم دخول لبنان مرحلة الأزمة في العام 2019 شهد سوق السيجار انتعاشاً قوياً خاصة أن أزمة السيجار الكوبي لم تكن قد بدأت بعد، فاسعار السوق صارت أرخص من الضريبة ومن أسعار المنطقة الحرة وحتى أرخص من بقية أنحاء العالم ما جعل لبنان يشهد فورة في بيع السيجار وهجمة من الخليجين على شرائه وكان يتم بيعه الى الخارج أيضاً».
بعد ذلك أعادت الريجي تصحيح طريقة احتساب الأسعار مع الارتفاع المستمر في سعر الدولار وهذا ما ساهم في رفع أسعار السيجار، لتعود في 18 ايلول الحالي وتعتمد نسبة 65% بالدولار الفريش و 35% باللبناني على سعر 1500 ليرة. ولكن مع رفع السعر الرسمي للدولار الى 15000 ليرة يتوقع أن ترتفع الأسعار أكثر وأكثر حتى حدود 30%.
بكلام أبسط يشرح ابي رميا الأسعار قائلاً ان علبة السيجار الكوبي الوسط باتت بمعدل 700 دولار والسيكار الواحد تبلغ كلفته 800000 ليرة وقد يصل سعر الفاخر منه الى ما فوق المليون ! فيما سيجار الفقراء «شغل» الهندوراس لا يتعدى سعره 150000 و(هذه الأرقام سابقة لتثبيت سعر الدولار الرسمي).
نسأل أبي رميا عن زبائن السيجار اليوم وهل ما زالوا قادرين على شرائه؟ «لا شك أن ثمة فئة لا تزال قادرة على شراء السيجار الكوبي يقول، لكن النسب اختلفت عن السابق ففي ما مضى كان أكثر من نصف مدخني السيجار يطلبون الكوبي فيما 20% فقط يطلبون الأصناف اليدوية غير الكوبية و20% اصنافاً مختلفة. اليوم لم يعد مدخنو السيجار الكوبي يتعدون الـ15% فيما الغالبية تطلب نوعيات أرخص ثمناً. وهذا الانخفاض في استهلاك السيجار الفاخر ينطبق أيضاً على المشروبات الروحية وكل ما هو لوكس. كل شيء تغير في لبنان يؤكد ابي رميا ويسأل: «ألم يخف استهلاك الناس أيضاً للمحروقات وحتى اللحوم؟» وحين نسأله إذا كان تدخين السيجار اليوم مستفزاً للناس يضحك قائلاً: «بتنا نخجل من شوي اللحم على الشرفات أو استعراض صورتنا في مطعم. لقد تبدلت الأحوال لكن في النهاية لسنا بلداً شيوعياً والقادر على شراء السيجار «صحتين على قلبه»…سابقاً يقول كنت استورد من مصر لكن الزبائن لم تكن تطلب إلا الكوبي فأوفقت الاستيراد أما اليوم فعدت الى الاستيراد من مصر وبات هذا النوع مطلوباً ولا يتجاوز سعرالواحد منه 70000 وكل الأصناف التي لم تكن «ماشية» قبل صارت اليوم تباع بكثرة. كنت أبيع 100 علبة سيجار في اليوم، حالياّ لا يتعدى العدد العلبة أو الاثنتين ومع ندرة البضاعة الكوبية صرنا نبيع بالقطعة اي سيجاراً أو اثنين لا علبة».
البلد واقف بس البيع ماشي…
جوزيف خوري يرى واقع السيجار من منظار آخر يفاجئه ويفاجئنا. يؤكد لنا أن ثمة تهافتاً اليوم على شراء السيجار الكوبي وكأن مدخني السيجار خائفون من انقطاعه في الأسواق يركضون للحصول عليه. «كنا ندلل على علبة السيجار لبيعها حين كان سعرها 350$ اليوم يتهافتون عليها وقد صارت ب700 ومرشحة للارتفاع. وكأن لا وجود للأزمة الاقتصادية عند مدخني السيجار الفاخر. اسعار بلغت مراتب لم نكن نحلم بها ومع ذلك يأتي إلينا اشخاص يكادون يرجوننا أن نؤمن لهم علبة».
من نيكاراغوا والهندوراس والدومينيكان يتم حالياً استيراد السيجار وهذه الأصناف باتت تبيع كثيراً وأسعارها في لبنان أرخص من أوروبا ما جعل التهافت عليها كبيراً حتى أن التجار مثلاً باتوا يعتمدون نوعاً من التقنين فلا يبيعون أكثر من علبة للزبون الواحد! من سوريا يأتون لشراء السيجار غير المتوافر في بلدهم نتيجة الحصار على سوريا، ومن المغتربات أيضاً كما علمنا والسيكار الوسط يبقى الأكثر مبيعاً وما كان يعرض عنه اللبنانيون سابقاً الذي لا يتجاوز سعره الدولار الواحد صار اليوم يباع بكثرة.
« الأزمة لم تؤثر على البيع» يؤكد خوري «وإن تغيرت طريقة البيع كما الزبائن. لم يعد البيع بالعلبة بل بالقطعة وبعض كبار الزبائن اليوم باتوا يجدون السيجار الكوبي غالياً وبعض من كانوا زبائن سيجار سابقاً مثل الضباط والقضاة غيروا عاداتهم هم الذين لا يزالون ينالون مرتباتهم بالليرة اللبنانية. بعضهم انتقل الى السيجاريللو. لكن بشكل عام منذ بدء الأزمة الكوبية انخفض بيع السيجار الكوبي لحساب الأنواع الأخرى التي لا تزال تجد لها زبائن «.
السياسيون على اختلاف انتماءتهم نواباً كانوا أو وزراء وزعماء يدخنون السيجار حسبما عرفنا ولا يزالون بالطبع من الزبائن الذين يعوّل عليهم، وربما تكون جلسة السيجار الجامع بينهم حين تفرقهم السياسية ظاهراً رغم أن بعضهم يصعب تخيل صورته مدخناً للسيجار…
جلسة هادئة
تدخين السيجار كما رحلة الصيد يحتاج الى عدّة وهواة السيجار يتباهون بهذه الأكسسوارات الفاخرة بدءاً من البراد الخاص لحفظ السيجار الى ماكنة الرطوبة التي تضمن عدم جفافه وصولاً الى القداحة الخاصة والقاطع والمنفضة والغلاف الحافظ. وإذا كان سعر السيجار لا يزال منقسماً بين الفريش واللبناني وفق سياسة الريجي فإن سعر الأكسسوارات كلها بالدولار ولا شك أن بيعها قد تراجع يؤكد خوري.
وكما للسيجار عدته كذلك له طقوسه والجلسة في الـ Lounge هي أحدى هذه الطقوس. عدد الـ lounge قليل يقول جوزيف خوري وهو صاحب أحدها. «الجلسة هادئة ممتعة وغير مكلفة جداً ويمكن ان تطول حتى خمس ساعات، يطلب الزبون سيجاراً وفنجان قهوة او كاس ويسكي او كونياك ويستمتع بتدخين سيجاره. لكن حتى هنا تغيرت الأحوال وبتنا نرى زبائن يدخلون ومعهم سيجارهم… أكثرية الزبائن فوق الخامسة والأربعين، لكن ثمة حضوراً أيضاً للشباب الأصغر سناً وللنساء أيضاً».
حبذا لو كانت أزمة السيجار الكوبي اسوأ مصائبنا في لبنان… لكن المصيبة الحقيقية الكبرى أن يوازي سعر علبة السيجار الكوبي تعويض نهاية خدمة لموظف قضى عمره في الوظيفة…