Site icon IMLebanon

حنين الى عتمة السينما الغائبة

 

 

قطاع مقطوع من شجرة

في عتمة ليلنا الصحي والاقتصادي والسياسي الطويل، نحنُّ الى عتمة من نوع آخر، عتمة لذيذة تداعب خيالنا وتغرقنا في شعور من المتعة يتجدد مع كل عرض، هي عتمة صالات السينما التي افتقدنا سحرها وحميميتها منذ ثمانية اشهر وافتقدنا قصصاً نترقب أحداثها ونصادق أبطالها من خلف شاشة عملاقة تتحول على مدى ساعة ونصف الى أجنحة تحملنا نحو مدن فاضلة. في خضم كل ما يحيط بنا من خدع ومخادعين اشتقنا الى الغرق في تلك الخدعة الأجمل كما يقول المخرج جان- لوك غودار، اشتقنا الى السينما.

 

 

 

في أواسط شهر آذار أعلنت التعبئة العامة في لبنان وطلب الى المؤسسات إقفال أبوابها والى المواطنين التزام بيوتهم. وحل الحجر على الوطن بأكمله، الى ان عادت القطاعات لتفتح أبوابها بشكل تدريجي مع بداية الصيف وتستأنف نشاطاتها ولو بقدرة استيعابية دنيا. تحركت العجلة الاقتصادية والسياحة ببطء وعادت الحياة لتدب في بعض المرافق الترفيهية، ولكن وحدها صالات السينما بقيت خاوية فارغة من الرواد لا تجرؤعلى فتح أبوابها. ومنذ ثمانية اشهر وحتى اليوم غاب قطاع السينما غياباً كلياً وكأنه في موت سريري. لم تتحرك اية وزارة لتستطلع الأمر، غابت وزارات السياحة والثقافة تماماً عن موضوع السينما وإقفال صالاتها وغياب عروضها وانتاجاتها ومهرجاناتها الثقافية وتجاهلت وزارة الاقتصاد تجاهلاً تاماً قطاعاً منتجاً استُثمرت فيه أموال طائلة وكان يدر أرباحاً على الدولة ويشغّل آلاف الناس… كيف هو واقع السينما في لبنان اليوم وماذا عن الخسائر التي تكبدها هذا القطاع؟ وهل صحيح أننا تساوينا أخيراً مع هوليوود عاصمة السينما العالمية وصار حالنا مثل حالها؟

 

السيدة كارلي رميا حبيس مديرة التسويق والإعلان في مجموعة Grand Cinemasتعتبر ان مشكلة السينما هي ذاتها في العالم كله نتيجة جائحة الكوفيد-19 لكنها تؤكد ان إعادة فتح الصالات بنسبة استيعاب تتراوح بين 30 او 50% ليس بالأمر الصائب او المناسب للصالات التي ستعيد عرض الأفلام السابقة في غياب الأفلام والانتاجات الجديدة. فهوليوود عاصمة السينما في العالم اتخذت قراراً بألا تنزل أي فيلم جديد قبل عودة الصالات الى قدرتها الاستيعابية الكاملة حتى يحقق الفيلم المعروض إيرادات جيدة محسوبة ومدروسة بدقة كي لا يقال انه فشل في حال حقق إيرادات قليلة. الشركات السينمائية الكبرى في العالم مثل Cine World او IMC أعلنت انها ستقفل صالاتها حتى إشعار آخر. هذا على الصعيد العالمي، أما لبنانياً فالوضع الاقتصادي لا يساعد على إعادة فتح الصالات؛ فكيف سيتم تحديد اسعار الدخول التي كانت 15000 ليرة وكيف سيتحمل الرواد الغلاء الجنوني لأسعار كل المنتجات التي ترافق عرض الأفلام من بوشار ومياه وشوكولا وشيبس وسكاكر وغيرها هي التي تشكل العمود الفقري لأرباح الصالات وتساهم مع الأفلام في صنع سحر السينما؟.

 

الإيرادات معدومة والخسائر كبيرة، الموظفون في الصالات وأعدادهم بالمئات عاطلون عن العمل لا ينالون رواتبهم. الآلات متوفقة وهذا ما يعرّض آليات تشغيلها وتقنياتها للخطر. إيجار الصالات مجمد في الوقت الحاضر وحتى الانتاجات السينمائية اللبنانية قد توقفت كلياً واصحاب شركات الانتاج المعروفون اوقفوا أعمال التصوير وبات كل التقنيين والممثلين ومن يدور في فلكهم متوقفين عن العمل في انتظار ما ستؤول إليه الأحوال. إذاً قطاع بأكمله وضع فيه اصحابه استثمارات باهظة جامد ولا من يسال عنه.

 

رزق الله على ايام العز

 

ولكن كيف كان واقع السينما في لبنان قبل أزماتنا المتلاحقة؟ يروي رائد وهو مزين نسائي شاب عاطل عن العمل ان السينما كانت سلوته الوحيدة يقصدها مرة في الاسبوع ليتابع أحدث أفلام الأكشن والرعب والإثارة التي يعشقها. يحب صوت أزيزالرصاص وهدير السيارات العالي الذي يتردد في ارجاء الصالة، ويحب أن يشعر بقشعريرة الخوف مع كل مشهد رعب ويتفاعل مع ذعر الجمهور الحاضر في الصالة، يعشق كل شيء في السينما حتى قرقشة البوشار في افواه الرواد. أمور افتقدها رائد بشدة ولم تعوضه عنها نيتفليكس في ” قعدة” البيت رغم كمية الأفلام التي يشاهدها اسبوعياً. الأمر ذاته تؤكد عليه السيدة حبيس حيث تقول أننا في لبنان كنا نسير بالتوازي مع أميركا واوروبا في إنزال أحدث إصدارات الأفلام، ورغم بعض العثرات التي طرأت في بدايات الثورة في شهري تشرين الأول والثاني إلا أن العروضات الكبيرة لم تتوقف وقد انزلنا فيلماً محلياً للفنان زياد برجي حقق إيرادات كبيرة ولقي إقبالاً من الجمهور الذي كان بحاجة لمتنفس بعد ما مرّ به من أحداث.

 

 

 

صيف 2019 كان ممتازاً وكنا من بين الأوائل في العالم في مواكبة إطلاق الأفلام الجديدة الضخمة، كما شهدت السينما في لبنان ظاهرة انتشار ونجاح الانتاجات اللبنانية التي أخذت مجدها على شباك التذاكر وصار المنتجون اللبنانيون يتسابقون في إطلاق فيلم جديد كل شهرين تقريباً ونحن من جهتنا نواكبهم بحفلات إطلاق للافلام الجديدة بحضور أبطالها على السجادة الحمراء وما الى ذلك. رغم بداية تأزم الوضع الاقتصادي كانت السينما لا تزال تحافظ على قدرتها على جذب الناس ولا سيما من خلال أفلام الأولاد والأفلام الكوميدية التي يعشقها اللبنانيون والأفلام الرومانسية والتجارية. وكانت الصالات تدخل مردوداً إضافياً من خلال الحفلات الخاصة التي تضمنها الجمعيات والمؤسسات المختلفة وحفلات أعياد الميلاد التي بات من الشائع إجراؤها في صالات السينما. وتقول السيدة حبيس ان الأمر لم يتوقف عند الناحية التجارية بل تعداها الى الناحية الثقافية حيث اقيم في صالات Grand Cinemas في فردان مهرجان للأفلام الروسية لاقى إقبالاً جيداً.

 

بين الديجيتال وصالات السينما من الفائز؟

 

انقلبت الدنيا وانقلب معها حال صالات السينما لكن الحنين بقي كما هو. فمن منا لا يذكر أولى تجاربه العاطفية في الصالة المظلمة؟ ومن منا لا يتذكر لمسة اليد الأولى او الغمرة الأولى في دفء المقاعد الوثيرة؟ من منا لا يتذكر فيلمه الأول ومن اصطحبه إليه او يود لو يعيش من جديد ذكريات الفيلم الذي لا تزال أحداثه راسخة في باله ؟ إنها السينما التي تعيد في عتمتها إحياء كل الأحاسيس الجميلة فينا وتسافر بنا الى عالم الأحلام والخيال ونحن غارقون في عمق مقاعدها، فهل تعود؟ ام اننا صرنا في واقع ديجيتال جديد يقزّم السينما ويحصرها في شاشة هاتف ضيقة او شاشة تلفزيون “ذكية”؟

 

عشاق السينما يرفضون هذا الواقع ويعتبرون أن لا شيء يحل محل الصالات رغم كل الصعوبات. تقول بياريت سالم وهي عاشقة للسينما تحمل حساً نقدياً عالياً وتتابع كل الصفحات السينمائية وما يكتب عن الأفلام أن لا شيء بإمكانه أن يحل محل السينما رغم شعبية الديجيتال streaming بين الشباب. فالسينما تشبه آلة الزمن على حد قولها، تدخل الى الصالة فتشعر وكأنك انتقلت في المكان والزمان الى بعد آخر وهذا ما لا يمكن أن تشعر به وأنت جالس على كنبتك في البيت. في السينما أنت تدخل الى عالم الأبطال والأحداث وتنسى نفسك فيه، بينما في البيت هم يحضرون إلى غرفة جلوسك ولا يتركون أي أثر فيها. الذهاب الى السينما لا يزال نشاطاً اجتماعياً جامعاً في وقت تكاد تغيب فيه اللقاءات الاجتماعية، فأنت تتزين وترتدي ملابسك وتخرج من البيت لتلتقي اصحابك او غرباء لا تعرفهم تصبحون كلكم أهلاً وجيراناً تتشاركون احداث الفيلم ومصير شخصياته.

 

كارلي حبيس ومن منطلق عملها في واقع السينما تؤكد تقريباً الأمر ذاته وتقول انه رغم ان نيتفليكس وغيرها من المنصات قد أخذت تقريباً نسبة 70% من محبي السينما لكن ذلك لن يمنع هؤلاء من ان يقصدوا الصالات وينتظروا الأفلام الضخمة الجديدة التي لا تعرض على منصات الديجيتال المعتادة. سيبقى للأفلام رهجتها وستبقى للصالات اجواؤها الحلوة المميزة. فالمقاعد في الصالة غير والصوت مختلف والنظارات الثلاثية الأبعاد تجربة مميزة هذا عدا صالات VIP بمقاعدها وخدماتها المميزة. الناس ملّوا من البيت وباتوا بحاجة الى الخروج والعودة الى الحياة الطبيعية واللقاءات الاجتماعية. لكننا حالياً لا نستطيع القيام بأية خطوة قبل ان يمر قطوع الكوفيد-19، ندرس الخطوات المقبلة وكلنا أمل ان الأمور ستعود الى حالها وستستعيد السينما دورها.

 

ولكن هل سيستطيع اللبناني ان يعود الى الصالات أم ان الغلاء سيكون قد سبقه باشواط ويصدم باسعار دخول تفوق قدراته؟ وماذا لو لم تكن جهنم الموعودة مجهزة بصالات مكيفة؟ هل سيشاهد اللبناني فيلم السقوط نفسه مرة بعد مرة الى الأبد؟؟؟