أكثر ما لفَتني في مداخلات النواب في جلسة إعطاء الثقة للحكومة، هو ما صرّح به سعادة النائب جورج عدوان في موضوع الفساد، وتحديداً ما قاله بأنّه «إذا لم يقَرّ قانون حق المواطن في الحصول على المعلومات، لن نستطيع تطبيق الشفافية بشكل فعلي».
أفرَحني هذا التصريح لأنّ هذا القانون أحمله في قلبي وعقلي منذ سنوات، وأعتَبره العدّة الأساسية للوصول إلى بيئة شفّافة وإلى مواطن قادر فعلياً على المحاسبة. وقد قُمنا بدعمٍ مِن الجنرال ميشال عون ومِن معالي الوزير جبران باسيل بتعديل القانون جذرياً ليُصبح نشرُ المناقصات وصرفُ المال العام حكماً على الانترنت.
وهذا القانون يُعتبَر أساسياً، ليس فقط في كونه قانوناً رائداً لتمكين المحاسبة، بل يُعتبَر اعترافاً واضحاً حين يتمّ إقراره من كلّ الكتل النيابية بالنيّة الحقيقية في مكافحة الفساد والالتزام بها، و يتعدّى بفعاليته القوانينَ التقليديّة التي تمّ إقرارُها في بعض الدول العربية. إذ تمّ تعديله بطريقة تُلزم كلّ الإدارات العامة وحتى الخاصة التابعة للدولة والتي تدير المال العام بنشرِ كلّ ما يتعلق بإدارة المال العام على الإنترنت تلقائياً.
وكان دولة الرئيس تمّام سلام قد طلبَ تأجيلَ إحالة القانون المتعلق بالوصول إلى المعلومات إلى الهيئة العامة لمجلس النواب بتاريخ 8/4/2014 وقد تمّ منحُه شهراً من دولة الرئيس نبيه بري وما زلنا ننتظر، وطالبنا دولةَ الرئيس سلام عبر كتاب مفتوح الإفراجَ عنه.
ويتضمَّن القانون في مادّته السابعة المستندات الواجب نشرُها حكماً:
على الإدارة باستثناء المؤسسات والشركات الخاصة المكلّفة بإدارة مرفق أو ملك عام، أن تنشر حكماً على مواقعها الإلكترونية ما يلي:
– القرارات والتعليمات والتعاميم والمذكّرات التي تتضمَّن تفسيراً للقوانين والأنظمة أو تكون ذات صفة تنظيمية، وذلك خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها.
يكون النشر في الجريدة الرسمية إضافةً إلى الموقع الإلكتروني التابع للإدارة.
– مع مراعاة أحكام المادة 5 من هذا القانون، كلّ العمليات التي بموجبها يتمّ دفعُ أموال عمومية تزيد عن عشرة ملايين ليرة لبنانية، وذلك خلال شهر من تاريخ إتمامها أو إتمام أحد أقساطها، على أن يتضمَّن النشر ما يلي: قيمة عملية الصرف، وكيفية الدفع، والغاية منه، والجهة المستفيدة، والسند القانوني الذي بموجبه جرى الصرف (مثلاً: مناقصة، عقد بالتراضي، تنفيذ حكم قضائي). يُستثنى من أحكام هذه المادة رواتب وتعويضات الموظفين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا القانون يحتاج إلى مزيد من التعديل ليشملَ أيضاً المؤسسات والشركات الخاصة المكلّفة بإدارة مرفق أو ملك عام، مع التأكيد أنّ النشر يتناول فقط القسمَ المتعلّق بالمال العام، وليشمل كلّ العمليات والرواتب والتعويضات، والهبات، ونشر المناقصات وشروطها كاملة. ونشر كلّ الإنفاق حتى لو كان أقلّ من 10 ملايين ليرة.
فإذا تمّ نشر الحسابات على الإنترنت، لن يبقى في ذهن المواطنين الشعار الموحّد بأنّ «كلّهم حراميّي»، بل سيستطيع أيّ مواطن تحديدَ مكمنِ السرقة والهدر، وسيتحوّل شريكاً في الاطّلاع على المصاريف والحسابات كما الإيرادات.
يجب تمرير هذا القانون في أسرع وقت ممكن، لأنّه بات يشكّل ضرورةً لإيقاف مزاريب الهدر ولفرضِ رقابةٍ متينة على مقدّرات الدولة، وما أمتن من رقابة الشعب نفسه الذي لديه مصلحة حقيقيّة في إيقاف الفساد المستشري.
ودأبنا خلال السنوات الماضية على المطالبة بالقانون وأطلقنا عريضةً لجمعِ أكبر عددٍ من التواقيع، ووجّهنا رسائلَ إلى كلّ الكتَل النيابية في هذا الإطار، وكتبت العديد من المقالات التي تدعو إلى تمرير القانون.
اليوم حجمُ الفساد كبير، وهناك فئة كبيرة أسيرة عقليةِ الفساد والرشوة، فهذه بيئة تضخّمت وكبرَت وتحوّلت نمطَ حياة يصعبُ الاستغناء عنه، وبالتالي لا يمكن النظر في حلول بعيداً من إعادة تحليل المداخيل، والتفكير بترشيق الإجراءات كافّة للوصول إلى إدارة منتجة وشفّافة.
لقد سمعنا من الكثيرين انتقادات وتعليقات حول إنشاء وزارة لشؤون مكافحة الفساد، بحجّة أنّ هذه الوزارة لا تملك تنظيماً قانونياً ودستورياً، وهذا أيضاً ورد في تصريح النائب عدوان، لكنّ إنشاء هذه الوزراة هو في الدرجة الأولى اعتراف أساسي بوجود هذه المشكلة من السلطة الحاكمة.
ثانياً حتى لو كان دور هذه الوزارة استشارياً إلّا أنّه أساسيّ لوضع ملفّات أمام الحكومة المقبلة واقتراح تشريعات لخلقِ العدّة الأساسية في عملية مكافحة الفساد في البلد. وهذا تطوّر أساسي ويشكّل الخطوةَ الأولى في التزام السلطة عمليةَ مكافحة الفساد.
علماً أنّ العدة المطلوبة يجب أن تتضمَّن جسماً يملك صلاحيات كبيرة ولديه أدوارٌ محدّدة، أبرزُها القدرة على فرض إجراءات جديدة بعيدة عن السمسرات القديمة، والقدرة على المحاسبة وإجراء التحقيق اللازم ودَرس واقع الاقتصاد اللبناني وتحليل أبواب الاحتكار ومدى تأثيرها السلبي أو الإيجابي على الاقتصاد.
كذلك إطلاق وسيط للجمهورية، ولكنّ الموضوع الأهمّ هو كيف نستطيع الوصول إلى هذه «السلطة» من دون إخضاعها لسلطة أيّ فريق سياسي، ربّما علينا التفكير في حاكميّة لشؤون الفساد مشابهةٍ بحاكمية مصرف لبنان. فإذا كانت المصارف تخضَع لرقابة من لجنة الرقابة، فهل يُعقل أنّ كلّ احتكارات لبنان لا تتمّ مراقبتها؟
الطريق صعبة ووعرة، لكنّ إصرار الرئيس عون، والذي تجلّى في خطاب القسَم وفي كلمته في قصر الشعب، واضح ولا يَقبل التأويل، كما أنّ التزام رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أمام أعضاء «التيار» يُعبّر عن الالتزام الثابت في هذا المجال. أمّا الجديد فهو أنّ العديد من الشخصيات الحزبية بدأت بتناول هذا الموضوع في تصريحاتها بعدما غاب لسنوات، وهذه بارقة أمل لإمكانية تحقيق اختراق في هذا المجال.
تسأل أكثرية اللبنانيين، هل هناك جدّية في محاربة الفساد؟ وهل يستطيع اللبنانيّ أن يتخيّل رخصةَ بناء بلا رشوة، استيراداً وتصديراً بلا رشاوى، رخَصاً على أشكالها وأنواعها بلا «حلوينة»، مناقصات أو مزايدات شفّافة؟ مراقبة ومنع احتكارات أصبح لها سنوات، والمستفيدون معروفون؟
نعم كلُّ هذا ممكن، لسببٍ بسيط وهو أنّه إذا لم نعالج هذه المشاكل البنوية في اقتصادنا سينهار الهيكل على كلّ الرؤوس. المعادلة ببساطة هي كالآتي: إمّا نصلّح ونغيّر أو نموت!