منذ بضعة أسابيع أطلق الأزهر الشريف في القاهرة مؤتمراً عالمياً بعنوان «المواطنة والحرية… التنوّع والتكامل». وقد شارك فيه عشرات المفكرين المسلمين والمسيحيين، ومراجع دينية متعددة من البلدان العربية والإسلامية لإطلاق إعلان (الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين) لعام 2017 م.
ويمكن القول إنّ الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، ومعه مجلس حكماء المسلمين، أطلقوا صرخة إيمانية هادفة للحفاظ على الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين أبناء كل بلد عربي وإسلامي، والتصدي معاً لموجات التطرف والغلو والإرهاب المدعوم من بعض الدول الإقليمية والدولية بهدف تفتيت المنطقة، وزرع الشقاق والفتنة بين أتباع الديانات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، وخصوصاً المسلمين والمسيحيين، وحتى بين المسلمين أنفسهم، ليحفظ الأزهر ويحافظ على شعلة الإيمان والتوحيد التي انبعثت من هذا الشرق العربي المستهدف بمكوناته وشعوبه، وخصوصاً أبناء الوطن العربي، الذي أكرمه الله تعالى بما أنزله على أرضه من كتب ورُسل وأنبياء لهداية البشر، وتكريم الإنسان في كل زمان ومكان.
وهذا يعني أنّ ثقافة المواطنة أضحت الآن حاجة وطنية وضرورة شرعية للحفاظ على الدولة الوطنية ووحدتها والعيش المشترك بين أبنائها بتنوّعهم الديني والمذهبي والثقافي، لأنّ الوحدة الوطنية في كل بلد عربي أو إسلامي هي الأساس في أيّ تكامل أو تضامن بين أبناء الوطن الواحد، أو الأمة الطامحة نحو التكامل والاتحاد.
وفي اعتقادنا أنّ لبنان الذي يعاني الآن حالات مرَضية مزمنة نتيجة أمراض المذهبية والطائفية، وحتى المناطقية، التي استساغها البعض من قادة الميليشيات التي عاناها لبنان منذ العام 1975، وأعاق هذا التوجه بناء الدولة اللبنانية ونهوض مؤسساتها، لتبقى هي وحدها المؤتمنة على الأمن والاستقرار وإنماء البلاد وحرية العباد.
فأمراض المذهبية، وأدران الطائفية، وموبقات المناطقية، هي الغذاء الرئيسي لكلّ أنواع الفساد والإفساد التي تعانيه البلاد، والترهّل والتخلف والفوضى والسلاح غير الشرعي المتفلّت من عقاله لحماية المكاسب والمحاصصة التي تعانيها مفاصل مكوّنات الدولة، أيّاً كانت وفي أي زمان ومكان.
فإذا كانت المراجع الدينية المحلية والإقليمية والدولية، الإسلامية منها والمسيحية، وبعض كبار الساسة الصادقين يدعون ويرَون في ثقافة المواطنة هي الأساس لبناء ونهوض دولة المؤسسات في لبنان، فما هو المانع إذاً من البدء بممارسة ثقافة المواطنة في المدارس والمعاهد، والجامعات، وفي دور العبادة الإسلامية والمسيحية، للحفاظ على الدولة المدنية القوية والعادلة، التي يؤمن أبناؤها بعقيدتهم ويحافظوا عليها، ويمارسوا كافة واجباتهم التي أرادها سبحانه وتعالى!.
فدولة المواطنة وثقافة العيش الواحد التي مارسها نبيّ الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، عندما هاجر من مكة المكرمة الى المدينة المنوّرة وأعلن صحيفة المدينة – أي معاهدة المدينة – ليتعايَش جميع أبنائها معاً على اختلاف عقائدهم لحماية المجتمع والدفاع عن مصالحه وأمنه واستقراره، فلما لا تكون هذه الثقافة هي المثل والمِثال لبناء العيش الواحد بين أتباع الديانات والمذاهب التي أكرم الله بها الإنسان؟.
وعندما ينطلق الأزهر الشريف من هذا التوجّه ويتلاقى بذلك مع المراجع الدينية والإسلامية والمسيحية في لبنان ومع التوجّه العام للمملكة العربية السعودية وقيادتها ومع قادة أكثرية البلدان العربية والإسلامية، فهذا يعني أنّ كل منظمات الإرهاب والتطرف ومجاميع الغلو والعصبية التي بدأت تظهر في أكثر من بلد عربي وإسلامي لا علاقة لها بالمسلمين وعقيدتهم السمحاء التي أرادها الله سبحانه وتعالى لتكون هادية لرسالة التوحيد وعاملة للرحمة والتراحم والتعارف بين الأمم والشعوب.
فهل يكون لبنان التنوع الديني والحضاري موقعاً متقدماً، وواحة لمعاني المواطنة والحرية والتنوع والتكامل الذي دعا إليه الأزهر الشريف، ليكون عنواناً ودليلاً لبناء دولة المواطنة في شرقنا العربي، وعالمنا الإسلامي، لنكون كما أرادنا الله تعالى خير أمة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله؟