IMLebanon

مدينة «الباب»: إستراتيجيات متنازعة

الهجوم المدعوم تركيّاً على مدينة الباب الاستراتيجية، التي باتت تشكّل عقدةَ الصراع في المنطقة الممتدّة من إدلب إلى الرقة مروراً بحلب، يُوحي بأنّ تفاهمات موسكو وأنقرة حول المدينة، باتت في حكمِ المنتهية، وأنّ تركيا تتجاوز الخطوط الحمر.

القيادة التركية تدرك أنّ البقاء خارج الباب، استنزاف ميداني وسياسي لا يمكنها تحمّله، ولم تعد مقتنعة بأنّ التمدد في اتجاه مدينتي مارع ومنبج، يمكن أن يعوّض خسارتها.

من هنا، يبدو أنّ تركيا بدأت هجوماً معاكساً يمكنها، في حال نجاحه، من فرض قواعد اشتباك جديدة، تضمن تحصين دورها الإقليمي، وحماية نفوذها في إدلب، وترميم الجماعات المسلحة في الريف الحلبي.

نتيجةُ المعركة في الباب، ستحدد وجهة الصراع في سوريا، فهي تضع القوى المتصارعة في مواجهة مباشرة، إمكانية التسوية السياسية فيها ضئيلة جداً، لعدم وجود مصلحة أو قدرة لأيّ من الأطراف على التنازل، أو تعويض الخسائر.

بالنسبة للدولة السورية، فإنّ نصر حلب لن يكتمل، طالما بقيَت الباب خارج السيطرة، وستظلّ تشكّل تهديداً عسكرياً، مباشراً ووشيكاً، ما يَجعل عودة الجيش وحلفائه إليها غيرَ مستقرة. وأيّ عملية لتحرير إدلب، التي تحظى بالأولوية على الرقة لدى محور «المقاومة»، ستكون صعبة ومكلِفة من دون تأمين الباب.

إلى جانب عوامل سياسية واستراتيجية، تجعل من تحرير حلب، تحوّلاً جوهرياً في الحرب الدائرة. فعلى الأغلب، لن يسمح الأميركيون وحلفاؤهم، لإيران وحلفائها، بالانتصار في سوريا، وهم بادَروا إلى تطوير مواقفهم، سياسياً وميدانياً، للردّ على «سقوط حلب».

من ناحية تركيا، السيطرة على مدينة الباب ضرورية، لتحجيم الحلم الكردي بكانتون واسع ومتكامل، وقابل للحياة، يهدد بالتمدّد الى الداخل التركي. وبالسيطرة عليها، تتحكّم بمصير مدينة الرقة، بإحكام الحصار عليها، ويمكنها من الضغط على محور «المقاومة»، بإبقاء حلب مهدّدة، لحماية منطقة إدلب، حيث يتركّز النفوذ التركي حالياً، ومرتكز مشروعها في سوريا.

في المقابل، فإنّ سقوط الباب، في يد الجيش السوري وحلفائه، سيَعني اضطرارَ تركيا إلى الانسحاب من كلّ الشمال السوري إلى إدلب، التي ستكون بدورها مهدّدة، بسبب قدرة الجيش وحلفائه، حينها، على استعادتها بعملية عسكرية أسهل من تلك التي شهدتها حلب.

بل يمكن القول إنّ تخلّي تركيا عن دخول الباب، أو عجزها عن ذلك، سيعني انسحابَها من كل سوريا. وهو أمرٌ غير وارد لا في العقل، ولا في الاستراتيجية، التركيَين. الأزمة التركية اليوم، هي في عدم القدرة على السيطرة على المدينة، بسبب الحسابات الروسية، ورفض محور «المقاومة» الحاسم لهكذا تحرُّك. وهو ما يُبقي مصيرَها معلّقاً على حال الأخذ والرد بين موسكو وأنقرة بشأنها.

لدى تركيا خياران لمحاولة الخروج من المأزق:

الأوّل: التدخّل المباشر بجيشها، وهو أمرٌ غير وارد، حاليّاً على الأقل، إذ إنّ المنطقة العازلة التي تصرّ تركيا على إقامتها، تعني احتفاظها بقوة كبيرة على الأراضي السورية، لفترة طويلة (وهي خطوة لا يمكن استبعادها على المدى البعيد)، فأنقرة لم تكشف الكثير، حتى اللحظة، عن الاستراتيجية التي قام عليها التدخّل الكبير الأول لقواتها في سوريا.

وإمّا أن تلجأ إلى إعادة تنظيم الجيش الحر، في تشكيلات عسكرية أكثر قوةً وتماسكاً ووضوحاً، ثمّ دفعِه إلى السيطرة على الباب، مدعوماً من الجماعات المسلحة الأخرى الحليفة. لكنّ الجيش الحر خيارٌ أثبتَ فشله مراراً، ولم ينجح في أن يشكّل ثقلاً موازناً، حتى لـ«وحدات الحماية الشعبية» الكردية.

الثاني: عودة تركيا إلى الاعتماد على «النصرة» و«القاعدة» و«أحرار الشام» واستخدام «داعش»، لمواجهة محور «المقاومة»، ووقف تقدّمِه المتواصل والاستراتيجي، منذ أشهر. وهذه الجماعات، هي عملياً، القوة البرّية للأتراك والأميركيين وغيرهم، وليس أمامهم سوى التعاون معها، ما سيقتضي وقف هجمات قوات «درع الفرات» على «داعش» في مرحلة لاحقة.

في ما يتعلق بالأميركيين، لا ينبغي الرهان على المواقف المعلنة للرئيس المنتخب دونالد ترامب، حول أولوية مواجهة «داعش»، فقتال التنظيم، يعني تعاونَ الإدارة الأميركية مع إيران و«حزب الله»، وهذا غير وارد، في عقيدة ترامب وإدارته، لأسباب كثيرة، أبرزُها حرمانُهما من «شرعية» ما، ستشكّل عبئاً عليها وعلى حلفائها، خصوصاً حليفها الأبرز إسرائيل، والرغبة في منعهما من الخروج من الحرب منتصرين.

والحلّ الأنسب للأميركيين، هو التحالف مع «النصرة» وبقية الجماعات «المعتدلة» المسلحة، واعتمادها حليفاً أساسياً على الأرض، إذ يمكنها أن تشكّل «الضد النوعي» لمحور المقاومة، وتوفّر استقطاباً شعبياً ضرورياً، لإضفاء المزيد من الشرعية على الحرب ضد «داعش».

كما ترمي إدارة ترامب، إلى جعلِ هذه الحرب مدخلاً لانخراط روسي كثيف، في العمليات ضد التنظيم، يريح الجماعات المسلحة الحليفة، ويَسمح لاحقاً لواشنطن باختطاف أيّ نصر واستثماره.

والأهم هو اعتقاد إدارة ترامب، بأنّ تحييد «داعش» والقضاء على تهديده، سيعرّي الدولة السورية ويُضعف موقفَها. ففي غياب «داعش»، وفي ظلّ تسويق «اعتدال» الجماعات المسلحة، سيُحرَمُ النظام من صورة المدافع عن الشرعية في مواجهة الإرهاب، تمهيداً لتوجيه الحرب ضده، ودفعِه إلى تسويةٍ تنتهي بتقويضه، وحرمانِ حلفائه من القدرة على المناورة.

تواظب روسيا على دراسة كافة الخيارات، للتعاون مع واشنطن في سوريا، على خلفية الاعتقاد بأنّ العوامل الضرورية لتوسيع هذا التعاون متوافرة، بناءً على أنّ التوافق بين الجانبين، المرتبط بالأهداف التي يسعيان إليها، يُمَكِنهما من التوصل إلى تسوية.

في المقابل، تعمل واشنطن وحلفاؤها على عدة محاور وجبهات، لإعادة التوازن بين القوى على الأرض. هي تجيز إرسالَ أسلحة فتّاكة إلى «الحلفاء» في سوريا، وهي خطوة لا جدوى منها، ما لم يكن هدفها استنزاف الروس في إدلب.

وتعلن إمكان فرضِ عقوبات جديدة على روسيا. وتمدّد صلاحية العقوبات على إيران. وتَدفع بعناصر «داعش» من الموصل إلى دير الزور، والهدف المباشر هو تدمر، وتهديد دمشق لاحقاً. كما يصبح الحديث عن تحرير الرقة أكثرَ جدّية.

ويتقدّم التركي للسيطرة على الباب. فيما يلجَأ الأوروبيون، للضغط حيناً، وللإقناع أحياناً، لمنع إدارة ترامب من الذهاب بعيداً في أيّ تحالف مع روسيا، للقضاء على «داعش»، خشية تعويمِ النظام السوري وحلفائه.

أهم أهداف هذه المناورة الواسعة، هو الضغط على روسيا ومحور المقاومة، للتخلي عن مدينة الباب، أو قبول تقاسم النفوذ فيها، بحيث يتمّ إفراغ النصر الاستراتيجي في حلب من محتواه، وإبقاء التهديد العسكري للمدينة ومحيطها قائماً ووشيكاً، إلى حين التمكّن من احتواء محور المقاومة، ميدانياً وسياسياً، تمهيداً لتقسيم سوريا إلى أقاليم قوية وقادرة على الضغط على السلطة المركزية في دمشق وتهميشها، وهذا أمرٌ أصبح أكثر حضوراً ووضوحاً، بعد تحرير كامل حلب.