باريس مدينة ساحات. كل ساحة لها ذاكرة. كل ساحة لها تجمُّع. كل الساحات تؤدّي إلى “القِيَم الجمهورية”. وخلاصة هذه القِيَم، الحريَّة.
تبدو فرنسا أحياناً دولة هامشية، فقَدت موقعها في صراع الجبابرة، ثم فجأة تستعيد تاريخها، ويأتي إليها العالم ليعبّر عن خوفه على نموذجها الإنساني، الذي يتعرّض أحياناً للهشاشة أو للعطب، لكنه لا يلبث أن يستقيم.
تاريخ إمبراطوري فسيفسائي، أكثر ما يعبِّر عنه، مهاجما “شارلي إيبدو” وحارسها: جميعهم جزائريو الجذور. فريق منصهر في “الجمهورية”، وفريق يتلقّى أوامر القتل من مكان في اليمن. سوف يُقال إن الذي أوصل الأخَوَين كواشي إلى هذا، هو خشونة المنشأ: فقد رُبّيا في ميْتم وعرِفا الإهمال والشقاء. لكن محمد أركون، أحد كبار مفكّري ومعلّمي الإسلاميات، نشأ أيضاً في ميْتم فرنسي. وعشرات الألوف من الأيتام يخرجون إلى الحياة متفوّقين وعاديين. لكن الأخَوَين كواشي ليسا أيضاً “شواذّ القاعدة”، إنهما جزء من أقليّة اختارت القتال والعنف بكل سبله وأشكاله، ليس في وجه الغرب، وإنما في وجه الجميع، من العراق إلى روسيا، ومن نيويورك إلى باريس.
لا أحد منا يعرف على وجه اليقين، ما، ومن هي “القاعدة”، وما إذا كانت “داعش” غطاءً رئيساً أم فرعياً، ومَن هو العقل المدبّر، وإلى ماذا ترمي في نهاية المطاف. لكننا جميعاً نعرف أن الأكثرية الساحقة من المسلمين، تنتمي إلى نهج وتراث وفكر يرفض الانحراف نحو أقصى أشكال العنف.
لذلك، رفضت اثنتان من كبرى صحف العالم، “النيويورك تايمس” والكندية “غلوب أند ميل” إعادة نشر الرسوم المسيئة “احتراماً للإسلام وأكثرية المسلمين”. وكتب الرسام جو ساكو في “الغارديان” رثاء لرفاقه في “شارلي إيبدو”: “ما الفارق بين الكاريكاتور والإهانة”.
العالم في زمن شديد السواد، كثير الكوالح. اليقظة فيه لدمويات الماضي وأحقاده، وفي هذا المصبّ، تلتقي ظواهر وتيارات غريبة بعيدة جداً من التيار العام. هكذا حدث في السبعينات عندما انتسبت حركات فوضوية دموية عنفية إلى اليسار، على رغم أن الشيوعيين كانوا ألدّ أعدائها.
ومن تلك العدَميات جماعة “بادر ماينهوف” في ألمانيا و”الألوية الحمراء” في إيطاليا، وجماعات متفلّتة في البيرو وبعض أميركا اللاتينية. وأدّت الظاهرة إلى ظاهرة معاكسة في اليمين المتوحّش، وخصوصاً في الأرجنتين وتشيلي. لكن النتيجة في أي حال، كانت تعطُّل الحياة الطبيعية في جميع نقاط النزاع.
في تلك الظواهر أيضاً، كنا نرى نساء جميلات يلتحقن بـ”البطل” ويشاركنه غثَيان العنف. الفارق الأساس كان أن معظم المنضمّين كانوا من عائلات ميسورة. والفارق الآخر طبعاً كان طبيعة التحريض. إلا أن الهدف كان مُشابهاً وهو تدمير النظام القائم في كل مكان.
في العودة الكلاسيكية إلى المحرّض والمنفّذ في “الأخوة كارامازوف”، يبدو دائماً أن الدور الأول للقدرة على التحريض. الشقيق المحرِّض في “الأخوة كارامازوف” كان أيضاً يأخذ من الإنجيل ويفسّر كما شاء في سبيل إغراق أخيه في خمر الجريمة.
ليست هذه المرة الأولى تكون أوروبا مسرحاً للجريمة الإيديولوجية. مزّق الجيش الجمهوري الإيرلندي بعض لندن، ووزّع بعض الباكستانيين متفجّراتهم على الأوتوبيسات. غير أن المواجهة الآن تحدث في مناخ واسع جداً من الهشاشة السياسية. فالمحرِّض يتحرّك ضمن الأسرة الإسلامية وخارجها، دون تمييز. يستهدف فرنسا، لكنه يستهدف أيضاً ديار المسلمين ويسعى بالعنف والقوة إلى فرض فقه عدَمي عليها، وإلى أن يقحمها، في حروب مفتوحة مع سائر “العالمين”.
فرنسا هي النقطة الأكثر عطباً. إنها بلد ساحات وحريات و”قيَم جمهورية”. وقد قام منذ الساعات الأولى بجريمة “شارلي إيبدو” مَن يُدافع عن “حقوق” المهاجمَين باعتبارهما مواطنَين فرنسيَّين. أما فرنسوا هولاند العارف بـ”قيَم الجمهورية” فقد استثنى من دعوة التجمّع، “الجبهة الوطنية” ومدام لوبن. لا وقت ولا مكان في مثل هذه الساعة لأحد من أهل العنصريات، من أي عنصرية كانت.
كلما انزاح العالم من حول الوسط ونقطة الارتكاز، دخل في دوّار التطرّف والزعزعة. ونحن أكثر مَن يعرف ذلك، من يوم كنا نموذجاً عالمياً للتواؤم الحضاري، إلى يوم أصبحنا ساحة الموتورين والعمى البشري. من يوم كانت قضايانا ومقاييسنا، التقدّم والترقّي والمبادلات الفكرية، إلى يوم مثل هذا اليوم، التفجير في الجامع، أو في المقهى، أو في الحارة، حيث يتجمع الأبرياء.
حتى الطبيعة شُرعتها الاعتدال. وهذا الجيل من التطرّف ينشأ، كما قال الكاتب عبدالرحمن الراشد، في السجون. ويتصيَّد دُعاة العدم ضحاياهم ما بين سجون الفقر والتعطّل، أو ما بين مساجده. ومع انكفاء المؤسسة الإسلامية الكبرى أمام هذا الانحراف، ظهَر إسلام لا علاقة له بالإسلام، تماماً كما عرفت المسيحية ظواهر عنف وعقاب وقتل، مناقضة كلياً لجميع روح الدعوة وفكرة الفداء.
الشطط ليس ظاهرة حديثة أو مستجدّة. المستجدّ هو حجمه وطبيعته وتهديده لمنابع الإسلام وعلاقته بالمكوّنات الكونيّة من وقائع وحقائق وآفاق وحضارات. المشكلة في تظاهرة “الريبوبليك” الأحد الماضي، أنها تُعلن، من دون إعلان، نهاية عصر التلاقي الذي وصل إلى أوسع (وليس أعلى) حدوده في السنوات الأخيرة. لقد بدأت أوروبا، من بريطانيا إلى فرنسا إلى إسبانيا إلى ألمانيا إلى الدانمارك، تنظر إلى الإسلام على أنه الديانة الثانية في البلاد. وذُهلت أميركا أمام أحداث 11 أيلول، لكنها ما لبثت أن خرجت من الصدمة. ومضت تنتخب رئيساً من أبٍ مسلم، وكان مُحاطاً برفاق عرب ومسلمين، وقريباً من دعاويهم السياسية.
انضمام جميع هؤلاء الزعماء إلى فرنسوا هولاند في ساحة الريبوبليك دلالة على أن باباً وسيعاً سوف يُغلق أمام الانصهار الكبير. والخوف أن يفتح في المقابل، الباب المضاد، باب التوتّر والقلق والفزع. ومن هذا الباب، قد يدفع المسلمون إلى غيتوات ومعازل وعزلات غير عادلة. رفض هولاند أن يدعو الجبهة الوطنية ومدام لوبن إلى التجمّع. ليستا من “قيَم الجمهورية”. لكن هذا لا يمنع أن شعبية الجبهة بلغت نسَباً مخيفة. وأوروبا تخاف على نفسها من هذه الظواهر القاسية كما تخاف من الظاهرة الحالية، وقد تميّزت كلتاهما، بالعنف النسوي والرفاقية في “جهاد النكاح”.
كانت تلك الزُمر تسمّي نفسها “الجيش الأحمر” سواء في ألمانيا أو اليابان أو إيطاليا أو البيرو، تيمُّناً بالجيش الأحمر السوفياتي، الذي خاض أرقى الحروب الوطنية وأصعبها. والقاسم المشترك بين زعمائها أنهم اعتُقلوا جميعاً إما في بار وإما بين صناديق “البلاك ليبل”. ولا أدري كم أفاد هؤلاء القضية الفلسطينية التي رفعوا شعاراتها في ما رفعوا، فرسموا لها صورة العنف بدل صورة الحق.
يسعى التطرّف بكل وضوح إلى توسيع الهوّة مع الآخر، مجزرة في مسرح روسي أو في روضة أطفال، وفيديو غير بشَري عن صحافي أو عامل إغاثة، وسبْيٍ جماعي، أو قتل جماعي، لمواطنين في أرضهم منذ الأزل. إنه يهدف إلى أن ينظر الجميع إلى الإسلام من هذا المرأى، لكي يضمن إشعال الحرب التي يتوخّاها. الحرب الجنونية التي تدمِّر كل شيء من أجل إعادة بناء عالم جديد، كما فعل بول بوت أو جنكيزخان. وكلما انكفأ العاقلون والنيِّرون، أو خافوا أو مالأوا أو استرضوا، اتجه هذا العالم نحو دمار كوني جديد. والأسوأ أن تفسُد الحياة الكونية ولو دون دمار. ففي معدلات اليوم لم تعد هيروشيما شيئاً يستحق الذكر. محا فلاديمير بوتين غروزني من دون زر نووي واحد. وأحبّ أن أقول في هذه المناسبة.