لقد مرَّ لبنان عبر التاريخ ومنذ إنشائه بمصاعب كبيرة وعديدة عصفت به وكادت تؤدي إلى انهياره وزواله كدولة حرّة مستقلة متعددة تتعايش فيها الأديان وتتناغم فيها الحضارات. وهذا التعايش جعل من لبنان بلداً فريداً من نوعه ليس في الشرق وحسب إنما في كل دول العالم والذي انبثق عنه هذا الأنموذج الفريد الذي ليس له مثيل، بحيث أصبح بلد الأرز وطن العيش المشترك بامتياز. وقد شكّلت هذه الميزة موضع اهتمام وحسد لأكثر من دولة إقليمية ودولية، من هنا كانت التدخلات الخارجية من مختلف الأطراف في محاولة لتفجير هذا البلد والقضاء على صيغته من طريق استغلال التناقضات والخصائص التي يتمتع بها كل مكوّن من مكوناته، وإذا كانت هذه التناقضات تُعتبر مصدر غنى بالنسبة للبنانيين، وطريقة فذّة لممارسة الحرية والديمقراطية التي لم تكن موجودة في أي من دول الجوار، التي كانت أقرب إلى الدول الدينية والديكتاتورية حيث يُمارس الحكم فيها بصورة قمعية وآحادية، بحيث يستمد الحاكم سلطته من الله أو من الدين أو من العرق بعيداً عن منطق الإرادة الشعبية.
التنوّع اللبناني مصدر خطر للجوار
ويشكّل التنوّع اللبناني والتعددية الحضارية المتجذّرة فيه مصدر خطر لدول الجوار قاطبة، بحيث أن هذه الدول تعتبر الظاهرة اللبنانية مصدر إلهام لشعوبها التي لم تزل غارقة في مجاهل العبودية والخنوع. من هنا كانت الرغبة الدفينة لهذه الدول تتمثل بضرورة القضاء على الصيغة اللبنانية، وخلق عدة كانتونات ومناطق تحت مسميات مختلفة لتستطيع كل طائفة من العيش داخل غيتوهات طائفية وإيديولوجية منفصلة تشبه إلى حد بعيد كل الدول المحيطة بلبنان، بحيث يتوقف التفاعل في ما بينها. من هنا كانت التدخلات الخارجية تتخذ من الاختلافات الطائفية مادة لتعزيز الفرقة بين اللبنانيين، وقد ساهم اللبنانيون عن قصد أو عن غير قصد فكانوا ينجرون وراء الأحلام الخارجية، بحيث أن كل طائفة كانت تأخذ بكل وشوشات الخارج الداعمة لها، وتترجمها إلى مصدر قوة وبطش تمارسها على بقية الطوائف. وقد تجلى ذلك بدءاً من الحملات الصليبية وصولاً إلى انتصارات صلاح الدين وصولاً إلى الدولة العثمانية والانتداب وما تبعها من تدخلات الغرب والشرق في الشؤون اللبنانية.
بطرس البستاني علامة فارقة
مع حلول أحداث الجبل على لبنان التي بدأت شرارتها في العام 1840 والتي قسّمت بعدها السلطنة العثمانية لبنان إلى قائمقاميتين، قائمقامية مسيحية تمتد من طرابلس إلى طريق الشام ويحكمها قائمقام مسيحي، وقائمقامية درزية تمتد من طريق الشام إلى صيدا ويحكمها قائمقام درزي. وفي العام 1860 كان للدولة العثمانية الدور الأكبر في استغلال خلاف درزي ماروني في الجبل لتأجيج الصراع الطائفي وبدء ما سمّي وقتها بأحداث الجبل التي نتج عنها اكثر من 20.000 قتيل مسيحي وتدمير أكثر من 380 قرية مسيحية و650 كنيسة، وكان الدروز قد تكبّدوا بالمقابل عدداً كبيراً من القتلى والخسائر. بعد هذه الأحداث أصدر المعلم بطرس البستاني، أبي التنوير، مجلته الرائدة التي سمّيت «نفير سوريا» والتي نادى بها أبناء أمته بضرورة التوحّد ونبذ الخلافات وذلك في سبيل إنشاء دولة موحدة. وكان أبرز ما نادى به المعلم هو ضرورة إنشاء الدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة وقد اعتبر البستاني في ندائه الذي أطلقه في أوائل القرن التاسع عشر أن السبيل الوحيد لمنع تكرار الحوادث الطائفية هو في إنشاء هذه الدولة.
الدولة المدنية أكثر من حاجة
واليوم مع تكاثر دعوات التقسيم والفرقة ومع اشتداد التدخلات الخارجية والتي تجد ويا للأسف آذاناً صاغية محلية، وتجد من يرددها إن من حيث التقسيم والفدرلة وإن من حيث إنشاء كيانات طائفية عقائدية تابعة لهذا المحور أو ذاك، أصبحت المناداة بالدولة المدنية أكثر إلحاحاً ولم تعد تحتمل التأجيل أو التسويف، فعلى كل السياسيين وكل المسؤولين من روحيين وزمنيين أن يعوا خطورة المرحلة ويلاقوا أبا التنوير في ندائه، عندها وعندها فقط ومع التطبيق الكامل لمندرجات الدولة المدنية وإلغاء الطائفية وفصل الدين عن الدولة، يصبح بإمكاننا أن نبني وطناً لا تتجاذبه الرياح الإقليمية والمصالح الدولية، فيصبح انتخاب الرئيس تحصيل حاصل وتصبح قرارات الدولة في يد الدولة، وما عدا ذلك يدخل ضمن نطاق الهرطقة السياسية والعملية الممنهجة لتدمير الدولة.
* كاتب سياسي