Site icon IMLebanon

القضاء المدني يتراجع لصالح الطوائف

 

أطفال لبنان غير محميّين كفاية… شرِّعوا حمايتهم

 

بين الفترة والأخرى يضج المجتمع اللبناني بقضية تهدد سلامة أطفال يكون بطلها القضاء أو المؤسسات الدينية. وآخرها قضية جمعية “رسالة حياة” حيث اتهمت الجمعية بالاتجار بالأطفال وأوقفت القاضية نازك الخطيب راهبتين امتنعتا عن تنفيذ قرار قضائي بتسليم أطفال معرّضين للخطر إلى القوى الأمنية. وعلى إثر الحادثة وتداعياتها طلب البطريرك الراعي “بالاحترام المتبادل لصلاحيات كل من القضاء العدلي والقضاء الكنسي”، وأكد أن الكنيسة أنشأت على الفور لجنة للتحقيق. وقبل شيوع هذه القضية بنحو أقل من عام ونصف العام، ارتكبت المحكمة الجعفرية أيضاً تجاوزاً بحق طفلتين وعرضتهما للخطر بعد أن منحت لوالدهما، المتهم بالتحرش بهما، الحق برؤيتهما وبمبيتهما لديه، رغم قرار قاضي الأحداث بحمايتهما منه. وبالتأكيد ما خفي من الانتهاكات التي تطال الأطفال أعظم. وتطرح هذه الحالات السؤال عن اختصاص كل من القضاءين الديني والمدني ولمن الحكم في حال التعارض بينهما، وتحديداً عندما تتعلق المسألة بمصلحة الأطفال؟

تشير المحامية لمى كرامة من المفكرة القانونية، لـ”نداء الوطن” أن لكل من القضاءين المدني والديني اختصاصاً معيّناً. “للقضاء الديني صلاحية الحكم بالوضع الناتج عن افتراق الأهل وتنظيم العائلة، أما قضاء الأحداث فمهمته حماية الطفل المعرّض للخطر”. وتشير كرامة أن الهيئة العامة لمحكمة التمييز قد حكمت في العام 2007 بأن لقاضي الأحداث صلاحية في حماية الطفل ويحق له تسليم القاصر لوالدته او لوالده ولا يعتبر مثل هذا التدبير تعدياً على صلاحيات المحكمة الدينية، وأن لا تعارض بين اختصاصه واختصاص القضاء الشرعي، وذلك لأن قضاء الأحداث يحمي الطفل المعرّض للخطر ولا يبت بمسائل الحضانة والوصاية”. ووفق كرامة يحق لقاضي التنفيذ رفض تنفيذ قرار صادر عن القضاء الديني في حال خالف النظام العام، ولا سيما إن عرض الطفل للخطر. وفيما يتعلق بقضية التزويج المبكر والتي تمس بمصلحة الطفل، تشير كرامة أن مجلس النواب يدرس اقتراح قانون لمنع التزويج المبكر، وبحسب آخر مسودة للقانون، فقد حدّد سن الزواج بـ 18 عاماً مع إمكانية ترخيص قاضي الأحداث لمن أكملوا 16 سنة بالزواج، إلا أن المراجع الدينية تصرّ على حصر هذه الصلاحية بالقضاء الديني.

 

ويتوافق كلام المحامي نجيب فرحات مع كلام كرامة لناحية أن لكل قضاء إختصاصه، لكن فرحات يذهب أبعد في شرح التفاصيل. مؤكداً “أن القضاء المدني هو القضاء العادي وهو الأصل وهو الذي يضع الحدود للمحاكم الدينية، أما القضاء الديني فهو صاحب الاختصاص المحصور. ويؤكد أنه في حالة كل طفل معرض لخطر يؤثر على نشأته يأخذ قضاء الأحداث التدابير اللازمة لرفع الخطر عنه”. يلفت في حديثه إلى “نداء الوطن” إلى نقطة هامة لم تثر في قضية أطفال جمعية “رسالة حياة”،مشيراً إلى أن الطفل غير معروف النسب أو “غير الشرعي” لا يخضع للقوانين الطائفية بل لقانون مدني، وبالتالي لا تنطبق على أطفال الجمعية غير المسيحيين القوانين الكنسية. “عندما يوضع طفل في جمعية فإنه يوضع كأمانة لديها بناءً لقرار من قاضي الأحداث الذي يملك هذه الصلاحية ويراقب وضع الأطفال، بالتالي لا يمكن التذرع بقرار ديني، فلكل قضاء ميدان اختصاصه ولا يمكن للقضاء الديني التدخل وإخضاع أي شخص غير تابع لطائفة لقوانينها. فعلى أي أساس تطبق أحكام طائفية إن كان نسب الطفل مجهولاً؟”. ويلفت فرحات إلى أن المحاكم الروحية، وعلى العكس من المحاكم الشرعية، لا تتبع للدولة، إنما للكنيسة. ويضيف أن مسألة الاعتراف بها موضوع أسئلة قانونية، فبرأي فرحات لا يجب الاعتراف بها، “لأن قوانينها لم تصدر عن مجلس النواب، كلفتهم الدولة اقتراح مشاريع قوانين لعرضها على مجلس النواب لكنهم لم يقوموا بذلك”.

 

بالنسبة إلى قضية الطفلتين اللتين أجبرت المحكمة الجعفرية الأم بتسليمهما لوالدهما ليأخذهما للمبيت لديه، على الرغم من صدور قرار ظني بحق الوالد يمنعه من الاقتراب من ابنتيه وينص على حمايتهما منه، بعدما استنتج القاضي المدني من الأدلة المقدمة وقوع جرم التحرش، وهو ما اعتبر حينها تضارباً ما بين القضاءين المدني والشرعي، يشير فرحات إلى وجود ثغرة في حينها في قرار الحماية. “هي ثغرة كان من الخطأ وجودها، إذ منع قرار قاضي الأحداث الأب من تسلم الطفلتين إلى حين صدور قرار ديني يسمح له بذلك، فبات القاضي الديني قادراً على السماح للأب بأخذ الطفلتين، ما سمح له بالحصول على قرار بالرؤية”. وإذ أظهرت هذه الثغرة تنازل القاضي المدني عن صلاحياته لصالح القضاء الديني، يصف فرحات هذه الصيغة بغير المألوفة. ويؤكد المحامي أنه من المفترض ألاّ يتعارض القضاءان، وفي حال تعارضا فالكلمة الفصل للقضاء المدني. أما تدخل القضاء المدني ومداه فيرتبطان بكل حالة حيث يتدخل هذا القضاء بالقدر الذي يرفع الضرر. “مثلاً عندما يرفض أب تسجيل طفله في المدرسة يرخّص قاضي الأحداث للأم القيام بذلك. وحصل أن أجبر القاضي فوزي خميس أباً على السماح لأطفاله بقبول هدايا من والدتهم بعد أن منعهم عن ذلك، إذ اعتبر القاضي في منع الأب أبنائه من تسلم هدايا من أمهم أمر يشكل خطراً عليهم”.

 

“تزويج الطفلات باطل قانوناً”

 

وفي حين تمس العديد من قوانين الأحوال الشخصية بمصلحة الطفل بل وتهدد حياته بالخطر، وبالتالي تمس بالانتظام العام، يرى فرحات في عبارة “الانتظام العام” مفهوماً متحركاً “باعتبار أن هناك أموراً مسلماً بأنها تمس بالانتظام العام، وأخرى غير مسلم بها. كذلك تبيح قوانين الأحوال الشخصية، التمييز بين الأطفال وفقاً لانتماءاتهم الدينية إضافة إلى التمييز الجندري، وهو ما يتناقض مع المادة السابعة من الدستور التي تنص على المساواة بين جميع اللبنانيين بالحقوق والواجبات. ويعتبر العديد من الجمعيات مسألة تزويج الطفلات تعدّياً فاضحاً على حقوق الطفل وتعريضاً لحياته إلى الخطر. لكن القانون المدني راضخ في هذا الإطار لقوانين الأحوال الشخصية. فكيف للقانون الذي لا يعترف باستقلالية القاصر ويعفيه من تحمل مسؤولية نفسه أن يتيح له إنشاء عائلة وتحمل مسؤولية الأطفال الذين سينجبهم وهو في سن متدنية، إذ يسمح بتزويج إبنة التسع سنوات؟!! وكيف للطفل الذي لا يحق له اختيار مع أي من والديه يود البقاء بحكم قوانين الحضانة أن يزوّج من غريب قبل أن يفهم معنى الزواج ومتطلباته.

 

في هذا الإطار يلفت فرحات إلى أن تزويج وزواج القاصرات يعتبر بحكم الباطل بموجب توقيع لبنان على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). إذ وقع لبنان على الاتفاقية وتحفظ على بعض بنودها إلا أنه لم يتحفظ على البند الثاني من المادة 16 الذي يمنع زواج القاصرين. وينص هذا البند على أن “لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية، بما فيها التشريع لتحديد سن أدنى للزواج…”. إنطلاقاً من هذا البند يرى فرحات أنه “وتبعاً لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي بما فيها قوانين الطوائف، فإن لبنان ملزم بتطبيق اتفاقية سيداو أي بمنع زواج القاصرين. لأنه وبناءً على التزام لبنان، ففي حال تعارض القوانين الطائفية مع القوانين الدولية تطبّق القوانين الدولية، “لذلك يتحفظ لبنان على بنود في اتفاقيات دولية خشية أن تطبق على الطوائف”. وبحكم ما سبق، يعتبر فرحات أنه من المفترض بطلان هذا النوع من الزيجات في حال عرضت الحالة على القضاء “من قبل ذي مصلحة”. ويبدو أن السعودية،الدولة الإسلامية، سبقت لبنان بموضوع زواج القاصرات وقد أخطرت وزارة العدل السعودية قبل أيام كافة المحاكم ومأذوني عقود الزواج بعدم إجراء أي عقد زواج لمن هم دون سن الـ18 عاماً، تحت طائلة المساءلة القانونية.

 

وأكدت الوزارة، أن اللائحة التنفيذية لنظام حماية الطفل نصت على أنه “يلزم قبل إبرام عقد الزواج التأكد بأن تزويج من قل عمره عن 18 عاماً لن يلحق به الضرر ويحقق مصالحه الفضلى ذكراً كان أو أنثى”.

 

وبالعودة إلى لبنان، وانطلاقاً من واجب قضاء الأحداث حماية الأطفال يطرح السؤال عن عدم تدخل قضاء الأحداث من تلقاء نفسه لإبطال هذه الزيجات والعمل على منعها فور معرفته بها. رداً على هذا الطرح، يجيب فرحات أن القاضي يرى بأنه يطبق مبادئ ونصوص مشروعة فلا يتدخل إلا في حال تبين وجود حالات ثبت فيها وجود خطر أو إجبار، أو إن ثبت أن حالة الطفلة لا تسمح لها بالزواج أو في حالات البيع والشراء، “فقضاء الأحداث لا يتحرك على أساس عناوين عريضة والقانون لم يحصر للقضاء هذه الحالات وأعطاه صلاحية واسعة ليقدر التدبير تبعاً للخطر”.

 

وجاء التعميم الأخير رداً على استفسارات وردت إلى الوزارة تتعلق بعقود زواج تم إجراؤها لمن هم سنهم أقل من 18 عاما.

 

وطالبت الوزارة بتحويل كافة الحالات التي ترد إلى مأذوني عقود الزواج والمحاكم إلى المحكمة المختصة للنظر فيها.

 

لا يمكن للدولة استخدام حقها للتعسّف

 

باب جديد للنقاش يفتحه الاستناد إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تسمو على القوانين المحلية، المدنية منها والطائفية. فلا يعد السؤال مقتصراً على مدى تعارض القضاءين المدني والديني أو تنازل أحدهما لحساب الآخر. ويصبح السؤال عن مدى التزام لبنان بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، التي تعهد الالتزام بها في دستوره. وتلفت المحامية منار زعيتر إلى قراءة مختلفة لمفهوم التحفظات، “استناداً لاتفاقية فيينا، يجب على التحفظات أن لا تمس بجوهر وروح الاتفاقية وأن لا تكون ذريعتها القانون الوطني. فالتحفظ حق منح للدول، لكن عملياً ووفق القراءة الحقوقية المنطقية يفترض أن لا تكون هذه التحفظات ذات قيمة، لأن المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية (التي تتحدث عن سمو الاتفاقيات الدولية على القانون الوطني) واتفاقية فيينا (التي تحدد روحية التحفظ ودوره وكيف يجب أن يكون) ترى بأنه لا يجب للتحفظات أن تكون ذريعة بيد الدول ويجب أن تكون موقتة. ولا يجب أن توضع في قضايا حقوق الإنسان لأنها تنسف جوهر الإتفاقية وروحيتها”. ويظهِر كلام زعيتر التناقض الذي يظهره لبنان في التعامل مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية، “فكيف لا يتحفظ لبنان على المادة الأولى في اتفاقية سيداو التي تعرف التمييز، ومن ثم يتحفظ على المادة 9 التي تتحدث عن الحق بالجنسية. وكيف لا يتحفظ على المادة التي تتحدث عن وجوب تغيير التشريعات لتتناسب مع الاتفاقية، ومن ثم يتحفظ على المادة 16؟”. إذاً للدولة حق سيادي بالتحفظ، لكن المقاربة الحقوقية وقضايا حقوق الإنسان تختلف عن اتفاقيات التجارة وشراء أسلحة، “الطريقة التي تتحفظ بها دول المنطقة تنسف الغاية من الاتفاقية، وهي إلغاء التمييز في حالة سيداو، كما تتعاطى باستنسابية مع قضايا حقوق الإنسان التي لا استنسابية فيها. فلا يمكن التعسف في استخدام الحق بالتحفظ أو استخدامه لنسف حق ثانٍ”.

 

أطفال لبنان غير محميين كفايةً…

 

ويمكن الاستنتاج بأن الأطفال في لبنان غير محميين بالشكل اللازم والذي تعهد به لبنان. وترى زعيتر أن المشكلة في لبنان تكمن في تحديد معنى الخطر، كما في عدم توسع القضاة دوماً بتفسيره. وتشير المحامية إلى ضرورة التوسع بمفهوم الخطر ودور قضاة الأحداث بحماية الطفلات من التزويج المبكر. لكن زعيتر تشير إلى إشكالية يفرضها قانون حماية الأحداث، “فهو كقانون العنف الأسري وعند التعارض يرجع إلى قوانين الأحوال الشخصية”. ولا يعني هذا الواقع ترك مصائر الأطفال رهناً بقوانين الأحوال الشخصية والتسليم بها بذريعة المادة التاسعة من الدستور، إذ أن التشريع في ما يتعلق بالأحوال الشخصية حق سيادي للدولة وليس حقاً حصرياً للسلطات الدينية. كذلك وبناءً على كلام زعيتر، واستناداً على المادة الثانية من أصول المحاكمات المدنية التي تتحدث عن سمو الاتفاقيات الدولية، فمن واجب الدولة سن القوانين التي تتوافق مع التزاماتها المتعلقة بحقوق الإنسان، كي لا تستمر في مناقضة مقدمة الدستور.

 

ولعل القانون الأكثر إلحاحاً اليوم، هو قانون لحماية الأطفال وهو ما دعت إليه اتفاقية حماية الطفل. فوفق زعيتر غياب هذا القانون يشكل اشكالية للقضاة والمحامين، وتحدياً للطرفين، ولذلك تركت مسألة تزويج الأطفال للسلطات الدينية. “فقانون حماية الأحداث مهم لكن روحيته جزائية أكثر منها حمائية، بمعنى أنه لم يأخذ مسألة الحماية من خطر يمس الطفل. والقضاة يأخذون الوجهة الإجتماعية لأن لا قضاة متخصصين في مسألة حماية الحدث، والقانون نفسه فيه خلل بنيوي لأنه ينص على أن لا يتعارض مع قانون الأحوال الشخصية”. وانطلاقاً من هذه القراءة تشدد المحامية زعيترعلى ضرورة توسيع مفهوم الخطر وتدخل قاضي الأحداث لحماية الطفلات من التزويج المبكر ويمكن للقضاة الاجتهاد.