IMLebanon

ملف تزوير “يُكربج” التنظيم المدني – زحلة: الإدارة لا معلّقة ولا مطلّقة

 

لا ينفصل واقع دائرة التنظيم المدني في البقاع عن باقي مؤسسات الإدارة العامة في الدولة. فمنذ بدء الأزمة ضاع موظفوها بين قرار رابطتهم من جهة، وإصرار الإدارة المركزية على استمرار تسيير المرفق العام من جهة ثانية. وعليه لم يعد إنجاز المعاملات يتم إلا بالحد الأدنى. وهذا ما دعا إلى رفع الصوت، وخصوصاً في أوساط المهندسين، الذين ما كادوا يهلّلون لإستعادة قدرتهم على سحب الإفادات العقارية من دوائرها، حتى اصطدموا مجدداً بصعوبة إنجاز معاملاتهم في التنظيم المدني. وبحسب عدد من المهندسين فإنّ مدير دائرة التنظيم المدني في زحلة أبلغهم أنه لن يوقع على أي رخصة بناء أو تسوية ما لم يكن الملف مكتملاً. إلا أن الموظفين المعنيين كما يؤكدون يرفضون تسجيل المعاملات حتى لو كانت مكتملة. وهذا ما يشكل برأيهم مصادرة للوظيفة العامة، ومحاولة تضييق على الناس بالصلاحية المعطاة للموظفين.

إنّ التدقيق في أصل الشكوى التي نقلها عدد من المهندسين، يدفع بالعودة قليلاً الى الوراء. فقبل ثلاثة أشهر تقريباً أوقفت النيابة العامة الإستئنافية في البقاع مدير دائرة التنظيم المدني في زحلة، مع كشّاف من الدائرة ومهندسة وعنصر شرطة بلدي في جديتا، بسبب ما أظهرته التحقيقات في الملف الذي رفعه محافظ البقاع إلى وزارة الاشغال، حول عدم مطابقة نتيجة كشف التنظيم لواقع مبنى قام بمخالفات في منطقة جديتا.

 

التهمة بدت ثابتة وموثقة وفقاً للملف الذي رفع إلى القضاء. إلا أنّ ما لم يتم إثباته، هو ما إذا كان المدير قد ارتكب هذه المخالفة بنيّة جرمية، أم نتيجة إهمال وظيفي في دائرته، أو حتى كان ذلك بتواطؤ من قبل الموظفين لتمرير الملف. وفي كل الأحوال، بدا المدير في موقع مساءلة، إستثنت بحسب أوساطه المهندس الذي مرر المخالفة، والذي يملك وحده حقيقة من سهّل له الأمر، مع أنّ مساءلته ومحاسبته قد تشكل سابقة تردع زملاءه عن مخالفات مشابهة.

 

بعد توقيف المدير بأسابيع نفّذ المهندسون أنفسهم إعتصاماً على درج عدلية زحلة، ليطالبوا بتسريع الإجراءات القانونية من أجل الإفراج عنه. حينها أيضاً حاول البعض اللعب على الوتر المذهبي، لمحاولة إظهار توقيفه كجزء من إستضعاف الطائفة الكاثوليكية في عقر دارها، ولم يخطر للبعض أنّ إثارة النعرات الطائفية في الإفراج عن المدير تضعف موقفه، لتخلّف لديه شعوراً بالمظلومية والغبن، خصوصاً إذا كان متأكداً من أنه ليس من ارتكب التزوير.

 

إستعاد المدير حريته مجدداً، ولكن من دون أن ينتزع براءته. فمحاكمته ما زالت مستمرة حتى الآن. غير أنّ اللافت أنّ قوانين الإدارة لا تعطي إجازة قسرية لموظفي الدوائر الرسمية الذين يلاحقون قضائياً بملفات مالية تتعلق بمهماته الوظيفية، أقلّه الى أن يثبتوا براءتهم فيعودون إلى مهماتهم مرفوعي الرأس، أو تتأكد إدانتهم فيفصلون من وظيفتهم بشكل دائم.

 

ملاحَق… ولكن يداوم

 

وعليه عاد المدير إلى موقع مسؤوليته، مع استمرار ملاحقته بقضية التزوير. وهذا ما يجعله يتحسس بشكل دائم «السيف» المصلت فوق رقبته. وبالتالي، يؤدي مهماته بحذر دائم تجاه كل ملف يرده، تداركاً ربما لإستغلال توقيعه في خطأ مشابه. فهو لا يريد أن يأكل «البوكس» مرة أخرى كما تقول أوساطه. وهذا الحذر طال حتى علاقته بموظفي دائرته، خصوصاً أنّ التراتبية الوظيفية لا تمنحه حق محاسبة موظفي الدائرة، لا على امتناعهم عن العمل ولا على تمريرهم المعاملات «الملغومة».

 

عاد المدير إذاً إلى وظيفته، ولكنه عاد مكبلاً بإجراءات مالية، قيدت قدرته على التصرف بممتلكاته، وفرضت تدابير إستثنائية حتى على تقاضيه راتبه الشهري. وعليه لم يعد يثق إلا بنفسه كما تؤكد أوساطه. وهو حالياً لا يوقع على أي رخصة قبل أن يكشف ميدانياً بنفسه على موقع العمل، وهذا تدبير إستثنائي لجأ إليه بعد إطلاق سراحه، من ضمن الموارد والامكانيات المتوفرة له بظل الرواتب التي تدهورت قيمتها. وهو من خلال ذلك، يحاول أن يحمي نفسه من السجن، بعدما تبيّن له كما تقول أوساطه، أنّ وظيفته تحتم أن يتحمّل المسؤولية أياً كان حجم مشاركته بالتزوير الذي حصل.

 

وعليه تردّ أوساط المدير التهمة الموجهة إلى إدارته بعرقلة ملفات المهندسين، لتؤكد أنّ كل ملف مكتمل وقانوني يمرر بالسرعة التي تسمح بها الإمكانيات والطاقة، وخصوصاً بظل الإضراب المستمر لموظفي الإدارة العامة، حيث هناك فقط خمسة من عشرة موظفين يؤمنون ساعات العمل المطلوبة منهم لثلاثة أيام أسبوعياً. أما الملفات التي لا توقّع، فهي التي تتضمن مخالفات.

 

وتكشف الأوساط في هذا الإطار أنّ المحاولات مستمرة من قبل مهندسين لتمرير مخالفات في ملفاتهم، حيث يعتبر البعض أنّ الفرصة سانحة لذلك، وسط الفوضى العارمة التي تعم البلد وإدارة شؤونه.

 

ملفات أنجزت وأخرى قيد الدراسة

 

تكشف زيارة إستطلاعية ميدانية للإطاع على سير العمل في الدائرة، أنّه لا صحة لتوقف إستقبال معاملات المواطنين كلياً فيها. فهناك ملفات أنجزت، وأخرى لا تزال قيد الدراسة. إلا أنّ أوساط الإدارة تؤكد أنّ المدير لا يوقع على أي ملف غير مكتمل، وبعد التحقق بنفسه من مطابقته مع واقع الأرض.

 

إذاً يمكن الاستخلاص أننا بتنا أمام مهندسين يتهمون الإدارة بالتقصير، وإدارة تتهم مهندسين بالضغط عليها لتمرير مخالفاتهم. إلا أنّ مصادر الإدارة تستطرد هنا، لتخبر عن تلقي الإدارة نسبة عالية من الملفات غير المكتملة، أو التي تحمل تجاوزات. وهو ما يشير إلى منظومة من الفساد، لا تقتصر على موظفي الإدارة العامة، خصوصاً أنه بمقابل كل مرتشٍ هناك راشٍ، وإلا لما لجأ لما يسمى بالإكرامية أو الهدية لولا محاولة «الزعبرة».

 

في إشارة إلى فساد يتخطى دوائر الإدارة العامة، تكشف مصادر أيضاً، «أنه من مسؤولية دائرة التنظيم المدني وضع الإشارة على الإنشاءات المخالفة، إلا أنّ المفارقة أحياناً تكون بورود تقارير أمنية تتحدث عن مخالفات أزيلت من قبل أصحابها قبل وضع الإشارة عليها، ليتبين عند الكشف، بأنّه حتى التقارير الأمنية قد تحمل معلومات غير دقيقة أحياناً.

 

التفتيش غائب

 

عندما يُسال المسؤولون في الإدارة عن حقيقة ما يحكى عن رشاوى تدفع فعلاً إلى الموظفين، تكون الإجابة بالبحث عن دور التفتيش المركزي والهيئات الرقابية. فهذه على ما يبدو معطلة، ودورها إنتقائي أيضاً، وهذا ما يجعل كشف بعض ملفات الفساد غير بريء من الخلفيات، ولا يستبعد البعض أن يكون بأهداف إنتقامية احياناً. فعندها تطال المحاسبة كما تقول المصادر الموظف «غير المدعوم»، فيما أجهزة الرقابة غير معنية بإرتكابات الموظف المدعوم، وهذا ربما يشكّل أرضية خصبة لتعزيز الزبائنية التي تمارسها الطبقة السياسية، لتمعن من خلالها في رهن الإدارة خدمة لمصالحها. ولكن… ألا يعزز ذلك القناعات حول ضرورة أن تبدأ أي خطوة إصلاحية في الإدارة «بشطف الدرج من فوق» أولاً.