المعطيات المتداولة حول مجلس الخدمة المدنية، الذي يفترض أنه نموذج يحتذى لموظفي الدولة، تشير الى أن هذه المؤسسة «النموذجية» لم تفلت هي أيضاً من مخالب الفساد المستشري، وعلى نطاق واسع. ويشمل ذلك معلومات عن تسريب أسئلة مباريات الدخول إلى الوظائف العامة، فضلاً عن تنفيعات مالية لموظفين على حساب آخرين.
والمجلس أناط به القانون مسؤولية شؤون موظفي الدولة لجهة تعيينهم وترقياتهم وتعويضاتهم ونقلهم وتأديبهم وصرفهم من الخدمة وسائر شؤونهم. ولديه صلاحيات رفع مستوى الموظفين المسلكي وإعدادهم وتدريبهم، وتنظيم الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات وتحديد ملاكاتها… وهو بقي خلال السنوات الماضية مؤسسة يكاد يكون لا غبار عليها، سوى أن صلاحياتها مصادرة من السلطة السياسية ولا سيما في مجال تعيينات الفئتين الأولى والثانية وبعض الترقيات. إلا أن موضوع تنظيم مباريات الدخول الى الوظائف العامة في الفئات الأدنى استمرّ في يدها إعداداً وتنفيذاً، من دون تسجيل خروقات أو مخالفات فاضحة.
إلا أنه، في الفترة الأخيرة، برزت ملاحظات وعلامات استفهام بعد تواتر معلومات عن عمليات تسريب أسئلة لمباريات عديدة، كان آخرها مباريات حارس أحراج في وزارة الزراعة. إذ تردّد أن أسئلة مادة الجغرافيا كانت في حوزة بعض المتبارين قبل الدخول إلى الامتحان. وفي مباراة على الوظائف الشاغرة في مياه لبنان الشمالي، كان لافتاً تأخّر توزيع أسئلة الامتحانات 4 ساعات بسبب خلافات داخل اللجنة التي تضع الأسئلة، ما أوحى بأن إصرار بعض أعضاء اللجنة على أسئلة معيّنة سببه أنها «مسرّبة ومدفوعة الثمن مسبقاً»! وتمثّلت الفضيحة الأخيرة في المباراة المفتوحة لقبول طلاب في شهادة الكفاءة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية للتعيين في وظيفة استاذ تعليم ثانوي. إذ رفضت رئيسة المجلس فاطمة الصايغ عويدات إعطاء المعترضين حق الاطلاع على مسابقاتهم المصححة. أحد المعترضين أصرّ على ذلك واصطحب محاميه طالباً الحصول على مستندات المباراة، اي مسابقات الامتحانات المصححّة، استناداً إلى قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات، فأجابته رئيسة المجلس في كتاب خطّي بأنه «يتعذّر تزويده بالمسابقات الخطيّة والعلامات لأنها تدخل ضمن المستندات التحضيرية والإعدادية التي وردت في الفقرة (ب) من المادة الخامسة من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات…»! فأسقطت رئيسة المجلس، بضربة واحدة، قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، وأي شفافية في المؤسسة التي يفترض أنها «نموذجية» لموظفي الدولة.
عند هذا الحدّ تكرّ سبحة الاحاديث عن الفساد المستشري في مجلس الخدمة المدنية. ففي الاسابيع الماضية تلقى المجلس اعتراضاً من وزارة المال على كيفية تسديد مستحقات موزّع البريد. وتبيّن أنه، بتعليمات من عويدات، يسجّل للموزّع بدل نقل عن كل ورقة مرسلة إلى وزارة المال، فيما يجب ان يسجّل البدل عن كل شحنة يوميّة. وما أثار استغراب موظفي وزارة المال أن الرجل يحصل على مكافآت تساوي ضعفي راتبه الاساسي وعلى بدل نقل وانتقال يساوي ضعفي راتبه الأساسي ايضاً، ليبلغ مجموع ما يتقاضاه أكثر من 4 ملايين ليرة شهرياً! موظفو المالية طلبوا التأكّد من طريقة احتساب بدل الانتقال وأرسلوا تعاميم التفتيش المركزي إلى المجلس وأعطوه درساً في الاحتساب «على أساس المنطقة» وليس «على أساس المعاملة الواحدة».
هذه ليست حالة واحدة في المجلس بل هي نمط متّبع. إذ تبيّن أن لجان التصحيح ولجان المباريات تصدر بقرار من رئيسة المجلس التي تمعن في التمييز المذهبي والمناطقي لتشكيل هذه اللجان، وهو ما أثار الكثير من الاستياء بين الموظفين الذين يكون لهم دور في لجان المراقبة ووضع الأسئلة والتصحيح وخلافه. علماً أن هذه الحظوة لم تشمل موظفي التنظيفات الذين طلب منهم القيام بأعمال تنظيف خارج مبنى مجلس الخدمة المدنية، ثم حسمت أجر ثلاثة أيام من رواتبهم!