ساعدَ في الإغاثة والإيواء وإعادة الإعمار وترميم ما تهدّم
سُحُب النيران والدخان والغبار الكثيف التي تعالت ملامسة السماء في 4 آب، انصهرت في غيمة وطنية واحدة، وتساقطت بعد ساعات مبادارت مدنية إنقاذية تروي قحط غياب الدولة. أفراداً وجماعات منهم المنظم في جمعيات أهلية وغير حكومية، ومنهم من وُلد من رحم التفجير، إجتمعوا على عونة المتضررين بكل ما أوتوا من خبرات وإمكانيات وعلاقات محلية وخارجية. وبعد سنة من الجريمة تظهّر دورهم الكبير؛ ليس على المستوى الإنساني فقط، إنما الإقتصادي أيضاً.
من المتعارف عليه إقتصادياً أن الأعمال التطوعية تعتبر من الأنشطة الإنتاجية التي تبقى خارج دائرة قياس الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن أخذ الجمعيات غير الحكومية (NGO) والمنظمات الأهلية والمدنية دور الدولة بعد تفجير 4 آب الكارثي، ولّد قيمة مضافة قد تكون وصلت إلى حدود 1 مليار دولار أو ما يعني 5.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020. وهذا رقمٌ ليس تفصيلياً. في الذكرى الأولى على الجريمة، تسلط “نداء الوطن” الضوء على الدور الذي لعبته بعض الجمعيات والمنظمات وانعكاساته الإقتصادية في التعويض عن الأضرار التي تراوحت بحسب التقديرات بين 8 و15 مليار دولار. إختيار هذه الجمعيات من عشرات، لا بل مئات الجميعات، هو للمثال فقط. نظراً للعجز عن سرد الدور الذي قامت به كل هذه المبادرات، كلٌ بحسب طاقاته وإمكانياته.
التخلص من الزجاج
فجر الخامس من آب أعلنت جمعية “أفعال، ورشة وطن” على حساباتها في مختلف وسائل التواصل الإجتماعي عن مبادرة جمع الزجاج المتساقط من المنازل والشوارع والأزقة. ودعت الجميع إلى عدم خلط الزجاج المتناثر مع الأنقاض في عمليات التنظيف والإزالة نظراً لخطورته على السلامة العامة. فـ”الزجاج كان أكثر مواد البناء تساقطاً، وأقلها إمكانية لإعادة التدوير. خصوصاً مع اختلاطه بالأتربة والأحجار والاخشاب والألمينيوم وبقية مواد البناء”، تقول منسقة وعضو “منصة أفعال” لينا قماطي. و”هو سيسبب ضرراً كبيراً للعاملين في عمليات الفرز، في حال نقله مع الردميات إلى أماكن التجميع”. الطريقة الوحيدة للتخلص من الزجاج بشكل آمن ومفيد للبيئة والإقتصاد كانت بتجميعه منفصلاً عن بقية المواد في أكياس الخيش ووضعها على جانب الطريق من قبل نحو 70 متطوعاً وبالتعاون مع الأهالي. لتقوم “أفعال” بنقله إلى الكرنتينا، حيث خصصت بلدية بيروت مكاناً خاصاً لتجميع الزجاج، وطحنه وتحويله إلى تراب. وبحسب قماطي فان هذا التراب يمكن إعادة خلطة مع الإسمنت والمساعدة على ترميم وبناء ما تهدم”. وبالفعل قامت “أفعال”، التي تهدف إلى وضع المواطن في خدمة المواطن ومساعدة المبادرات وتقويتها وتعزيز التواصل والتشبيك في ما بينها، بالتعاون مع بقية الجمعيات مثل arcenciel وغيرها… بجمع 600 طن من الزجاج في فترة أسبوعين، وتلبية 2500 طلب في بيروت الكبرى لازالة الزجاج من المناطق المتضررة. المبادرة على أهميتها الصحية والبيئة والإقتصادية تبقى “ناقصة من وجهة نظر قماطي”. فحجم الدمار الهائل وتطلبه إمكانيات وأعداداً هائلة من الأفراد تفوق قدرة المجتمع المدني، وقد تتخطى حتى قدرة الدولة اللبنانية على العمل لوحدها. ومع هذا، لم تيأس الجمعية وقدمت أكثر ما عندها واستطاعت أن تزيل قسماً كبيراً من العبء المترتب على تناثر الزجاج.
بيتنا بيتك
إرتدادات التفجير حولت آلاف المساكن في العاصمة بيروت، وتحديداً في المناطق المحيطة بالمرفأ، إلى أنقاض، ونزعت من فوق رؤوس عشرات الآلاف من المواطنين سقفاً يحميهم. وعلى الفور، تحولت جهود جمعية “بيتنا بيتك” إلى تأمين مساكن بديلة موقتة، لإيواء العائلات المشردة. لتنتقل في المرحلة الثانية إلى ترميم المنازل والمؤسسات المهدّمة وإعادة أصحابها إليها. فـ “أعادت الجمعية بناء وترميم 1500 منزل وأكثر من 200 مؤسسة تجارية صغيرة، ومعمل شوكولا، ومبنى أثري واحد، ومحل أثري. وهي تعمل اليوم على إعادة ترميم 3 شوارع بشكل كامل”، يقول رئيس جمعية “بيتنا بيتك” مارون كرم. “وقد بلغت كلفة إعادة الإعمار الذي تكفلت بها الجمعية 1.3 مليون دولار، جرى تأمينها من المساعدات والتبرعات من الداخل والخارج”. وبحسب كرم فان “المجتمع المدني على اختلاف مهماته لعب دور الدولة في الإيواء والترميم وتأمين المياه والغذاء والمساعدات المالية وخلق فرص التوظيف والتنظيف. ومع هذا لم نكن على قدر الآمال الموضوعة بسبب عدم وصول كمية كافية من المساعدات والتبرعات التي وعدنا فيها من المجتمع الغربي. فالوعود لم تترجم إلى مساعدات جدية وكبيرة. واقتصر التمويل على تبرعات المغتربين والمقتدرين في الداخل وليس من جهات دولية وصناديق عالمية”.
كلنا لبيروت
مقابل عمل الجمعيات على أرض الواقع نشطت المبادارت من قبل جهات موثوقة لتأمين التمويل اللازم ورفد الجمعيات بما تحتاجه من تمويل. فاطلق “تجمع رجال الأعمال” و”اتحاد رجال الاعمال للدعم والتطوير” مبادرة “كلنا لبيروت” التي هي عبارة عن صندوق مفتوح لجمع التبرعات من الداخل والخارج. وقد استطاعت في فترة قصيرة لَمّ تبرعات بقيمة تجاوزت 8.1 مليارات ليرة لبنانية. جرى تقديمها إلى 12 جمعية موثوق فيها، تملك برامج اعادة تأهيل للمنازل ولأربعة مدارس متضررة.
من تحت الردم Basecamp
من تحت الردم أو BASECAMP كانت واحدة من المبادرات المدنية التي نشأت بعد الإنفجار. فتنادت أربع جمعيات سوياً، واتخذت من موقف في منطقة مار مخايل محطة أولى لها لتجميع المساعدات المتدفقة من كل المناطق، ومن ثم توزيعها على المتضررين بالتعاون مع غير جمعيات. “الفكرة من المبادرة كانت تنسيق الجهود وزيادة التعاون وشبك الأيادي لتعزيز الكفاءة في تقديم المساعدات”، بحسب مدير العمليات في المبادرة كميل ماضي. و”مع ارتفاع كمية المساعدات بشكل كبير جداً وتنوعها بين أدوية ومأكولات وملبوسات وأدوات منزلية ومفروشات وسلع غذائية وحاجات يومية… توسعت المبادرة إلى أربعة مواقف. وقد ضمت خيمة أولى يتواجد فيها ممرضون وممرضات وأطباء، وثانية لتحديد البيوت المتضررة وكيفية توزيعها، وثالثة لمواد التنظيف، ورابعة للمأكولات، وخامسة لأدوات النظافة الشخصية. وقد جرى تقسيم العمل بطريقة منظمة بين الجمعيات وداخلها. المبادرة قدمت المساعدات من الآلاف إلى أكثر من 7 آلاف محتاج من دون أن يكون هناك إحصاء دقيق عن قيمة المساعدات المادية. وقد استمر العمل بشكل متواصل لمدة شهرين ونصف من بعد التفجير. ومن بعدها تحولت الجهود بحسب ماضي إلى تعزيز التنمية المستدامة ومساعدة المؤسسات التي خسرت رأسمالها من معدات وأدوات عمل بالتعويض عليها لتستأنف نشاطها الإقتصادي.
ولادة المواطنة
بالإضافة إلى الدور الجبار الذي قامت به هذه الجمعيات، وغيرها الكثير من المبادرات ومنظمات المجتمع المدني من الناحية الإقتصادية، فان منسّق الإدارة السياسيّة في حزب الكتلة الوطنية امين عيسى يضع هذه المبادارت في خانة “الإيمان بالمواطنة”. فبغض النظر عن قيمة هذه المساعدات في حال “قرشناها” من الناحية المادية، فان “هذه المبادارت أتت في سياق الوعي لأهمية المواطنة “المولودة” من بعد ثورة 17 تشرين الأول من العام 2019. فشوارع العاصمة بيروت غصت بالمتطوعين من مختلف المناطق وتدفقت المساعدات لأهاليها من كل لبنان. والكل كان يعمل باتجاه واحد وتحت هوية واحدة متخطين الحواجز المناطقية والحزبية والطائفية والمناطقية”. باختصار “شهدنا في هذه اللحظة التاريخية مواطناً لبنانياً يساعد مواطناً لبنانياً آخر بصمت ومن دون تمنين”، يقول عيسى. “فغابت كراتين الإعاشة الموسومة بشعارات الأحزاب وحل مكانها العطاء من القلب بتضامن لم يشهد له لبنان مثيلاً”. وهذا يغني عن ملايين الدولارات.
لا نفشي سراً أو نفضح مجهولاً إذا قلنا ان هذه الجمعيات وغيرها الكثير قامت بعمل الدولة. وإن كانت المساعدات بقيت ناقصة نظراً لهول الكارثة ونقص التمويل، فان نتائجها الإقتصادية كبيرة جداً. وقد خففت فعلاً لا قولاً من وجع المواطنين وساعدتهم على الإستمرار.