فيما يزداد الانقسام الطائفي في البلاد، يرفع رئيس مجلس النواب نبيه بري، شعار الدولة المدنية. واقعياً، الهدف ليسَ مستحيلاً، لكن أمراء الطوائف يتذرعون بحجة الاستحالة. حتى بري نفسه يعرف أن المشروع صعب التطبيق ويحتاج إلى نفَس طويل، فضلاً عن كونه يطرح إلغاء الطائفية السياسية، لا الدولة المدنية. فهل ثمة آلية لترجمة ما يقترحه، أم أنه مجرّد شعار يهدف إلى فتح الباب أمام «مؤتمر تأسيسي»؟
أكثر من مرّة، كرّر رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الحديث عن الدولة المدنية. آخرها، في لقاء الأربعاء النيابي الأسبوع الماضي. الدعوة لافتة، لكن كيفَ تستطيع مرجعية سياسية طرح هذا العنوان في هذا التوقيت، بينما التعصّب الديني والمذهبي في لبنان أصبح مُنظّماً؟ فالوعي بوصف الطائفية علّة النظام السياسي في لبنان، يقابله اقتناع أعمق بأن الطائفية أحد أبرز مظاهر الحماية للبنية السياسية للطوائف، التي لا تجِد ديمومتها إلا في إطار النظام الطائفي. كلّما طُرح شعار الدولة المدنية، تؤيّده القوى السياسية في المبدأ، قبلَ أن تغوص في تفاصيله فتفجّره من الداخل. ويُصبح الحديث عن الدولة المدنية صعباً «نظراً للخلافات السياسية الحادة، وضبابية المفاهيم المتعلّقة به». هكذا يروّج السياسيون للتنصّل من الموضوع، علماً أن الكثير من النماذج في العالم تؤكد أن وجود طوائف وإثنيات مختلفة لا يتعارض مع إقامة دولة مدنية. هذا الأمر إنما يظهر حقيقة أن أحداً من القوى السياسية الكبرى لا يُريد فعلاً الذهاب باتجاه إلغاء الطائفية السياسية والدولة المدنية. الأكثرية تتعامل مع هذا الشعار وكأنه شرّ مطلق. حتى المنادون بهذا الشعار حالياً لا يبدو أنهم يملكون مشروعاً واضحاً لكيفية ترجمته، وهم يدركون أنه سيصطدم بمعوقات كثيرة كما حصلَ مراراً. فهل من جديد يدفع إلى رفعه اليوم؟
ثمّة من يجزم بأننا أصلاً في دولة مدنية، فـ«دستورنا ليسَ قائماً على نصوص دينية»، وأن المقصود من كلام برّي إلغاء الطائفية السياسية. فهما «مفهومان مختلفان. ولو أن إلغاء الطائفية مدخل إلى الدولة المدنية»، والانقسام حول هذين المفهومين يعود إلى زمن الحرب اللبنانية، حينَ «كانت الحركة الوطنية تُطالِب بإلغاء الطائفية السياسية، كانت بعض شخصيات الجبهة اللبنانية تردّ بالدعوة إلى العلمنة الشاملة بهدف إحراج القوى السياسية لدى المسلمين من باب عدم قدرتها على المسّ بقوانين الأحوال الشخصية الخاصة بطوائفهم».
مصادر المستقبل: بري يمهّد بدعوته هذه لعقد مؤتمر تأسيسي
دعوة برّي فُهِمت على أساس أنه يدعو إلى إلغاء الطائفية السياسية، وأنه يعيد إحياء لطرح سبَق أن وضعه على طاولة الحوار عام 2009، حينَ طالَب بإنشاء الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية. آنذاك، طلبَ إلى ممثّلي القوى السياسية التقدم بأسماء للهيئة. وبعدَ أن وافق الجميع، لم تحضُر الأسماء. أصلاً في كل المرات التي طُرحت فيها مبادرة «الإلغاء» كانت تُسحب من التداول بعدَ صدور موقف حاسم إما من مرجعيات دينية أو سياسية. على سبيل المثال لا الحصر، عارضها الرئيس الراحل رفيق الحريري ١٩٩٨، بعد مشروع الزواج المدني الذي طرحه رئيس الجمهورية السابق الياس الهراوي، واضطر بري إلى تغطيته بطرح إلغاء الطائفية السياسية، كمقدمة لا بدّ منها لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. وبعد النداء الشهير للمطارنة الموارنة عام 2000، انطلقت الدعوة إلى تطبيق المادة 95 من الدستور، وحاول يومها النائب السابق مروان فارس جمع تواقيع على عريضة نيابية، لكنها محاولة ما لبثت أن انهارت وطويت قبل أن يعيد بري الكلام عنها في عام 2009 على طاولة الحوار.
الترقيع المستمر للنظام، منذ اتفاق الطائف ومن بعده اتفاق الدوحة، جعل الطبقة الحاكم أضعف من تغطية الشوائب في جسم النظام. فهل قالَ بري ما قاله في رسالة مغزاها أن «حال البلد هيك مش ماشي»؟
حينَ يُسأل رئيس المجلس يُجيب – مع إدراكه أن مثل هذا الأمر يحتاج إلى نفَس طويل – أنه «الخيار الأفضل أمامنا». بل يذهب إلى أكثر من ذلك، عندما يعتبره «الحلّ الوحيد، فالطرح موجود وسيعود الجميع إليه في نهاية المطاف». وبحسب بري، فإن البداية هي إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية تحت سقف الدستور. أي بوجود مجلسين، للنواب والشيوخ يُنتخبان بالتوازي. والأخير، يتضمن مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، من دون أن يلحَظ توزيعاً مذهبياً داخل كل منهما. ماذا عن الآلية؟ يجيب بري: «الطرح موجود ويُمكن العودة إليه متى أرادوا ذلك، وقد يحصل ذلك من طريق تبنيه من قبل كتل في مجلس النواب».
طرح رئيس المجلس لا يزال هو ذاته، و«النقزة» منه عند الآخرين كذلك، خصوصاً في «الجانب المسيحي». ثمة من يراه مستحيلاً أو يحتاج إلى دراسة معمّقة، وثمة من يستغرب خروجه «على لسان من يُعتبر من صلب هذا النظام الطائفي كالرئيس بري». لا شك في أن «الدولة المدنية هدف» على ما يقول نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي. ويضيف: المهم «إمكانية تحقيقه، من ضمن خطّة بعيدة المدى تضعها الهيئة التي تُعنى بإلغاء الطائفية». يستدرك الفرزلي بأن «الدولة المدنية لم تنجح في أي مكان في الشرق. فجينات المنطقة – وليس المقصود هنا السكان – جينات طوائفية، لذا لم تنتصِر العلمانية هنا يوماً على الدين». ماذا عن تركيا؟ يجيب نائب رئيس المجلس: «ها هو الرئيس التركي يحدثنا عن جيش محمد. فهل نصدّق أن هناك دولة مدنية؟»، معتبراً أن «المعركة يجب أن تبدأ من تطوير قانون الانتخابات، ليكون لبنان دائرة واحدة مع النسبية».
من جهته، يعتبر حزب القوات اللبنانية، أن «الكلام عن الدولة المدنية ليس في وقته، فالأولوية هي لتشكيل الحكومة»، من الطبيعي أن تهرب القوات من هذا الطرح، وهي التي تعتبر أن «الدولة المدنية تلغي دور المسيحيين». ويروّج المعترضون أن للتلويح بالدولة المدنية وإلغاء الطائفية السياسية جملة أهداف، يتقدمها «الضغط على المسيحيين وسحب المزيد من امتيازاتهم. كذلك إن إعادة ترتيب النظام سيسمح للشيعة بالحصول على مكاسب أكبر نتيجة تنامي دورهم بعد التحولات الكبرى في المنطقة». ولا يخفي تيار المستقبل هذه النظرة، فيسأل بعض القياديين: «هل تتلاءم هذه الدعوة مع مصلحة بري الذي سيضطر حتماً إلى التخلي عن صلاحيات رئاسة المجلس؟». وفي المجال السياسي الأوسع، يستغرب هؤلاء توقيت الطرح، ملمّحين إلى أن« بري ربّما يشعُر بأن انهيار الدولة والنظام باتَ قريباً جداً، فيمهّد بدعوته هذه إلى عقد مؤتمر تأسيسي جديد»!