ساحرة عبارة “الدولة المدنية” ومثيرة لآمال عراضِِ لدى لبنانيين كثيرين سئموا النظام الطائفي البغيض وتوسَّموا في ثورة المواطنية في 17 تشرين بشائر تغيير يكرّس علاقة الفرد بدولته، بعيداً عن سطوة الطائفة أو ترهيب بعض رجال الدين المتعصبين وغير المتبحِّرين بالدين.
المهم ألّا يغرق “نواب التغيير” في طرح “الدولة المدنية” جاعلين منه عنواناً للمرحلة ومفتاحاً سحرياً ينقذ من حفرة الانهيار، لئلا ينجح من يدعو الى “هدنة” سنتين بإخفاء موضوع السلاح عن رادار اللبنانيين، ولئلا يتمكن من حرف الأنظار عن التناقض الرئيس المانع قيام دولة حد أدنى من المقومات الكيانية السيادية.
مهم أن يشعر المواطن- المتابع بشغف بدايات “نواب التغيير”- بالارتياح لاختراق المنظومة بنوابٍ أتوا بأصوات خارج “القيد الطائفي” حاملين هموم اللبنانيين بلا تفريق، لكن “النقاوة الثورية” لا يجب أن تعني سذاجة الوقوع في فخ دعاة الحوار العبثي حول استراتيجية دفاع أو المشجعين على إلغاء الطائفية البغيضة لتسود مكانها المذهبية المقيتة.
لبنان حالياً دولة مدنية وليست دينية تيوقراطية. مدنيتُها على قياس قدرة نسيجها الاجتماعي على استيعاب تحديث القوانين باتجاه المساواة التامة في المواطنية حقوقاً وواجبات وفرصاً. غير ان نقص “المدنية” ليس علّة النظام السياسي في مجتمع تعددي تتضاءل فيه نقاط الالتقاء وصولاً الى اقفال طائفة كاملة باب الاندماج، مستأثرةً بالتمثيل الشيعي، مؤدلجةً جمهورها ومحوّلة الخصوصية الى نهج عام وثقافة مستقلة وفسطاط كامل المواصفات.
ليس ضرورياً أن يشكل موضوع الزواج المدني تحدياً وإحراجاً للنواب التغييريين. ففي المبدأ يُفترَض أن يكون الزواج الديني اختيارياً وليس العكس. والردّ على المسيحيين والمسلمين الرافضين لا يجب أن يتجاوز السجال التبسيطي السخيف: لستُم أكثر ايماناً من روما المحتضِنة الحبر الأقدس وتاريخ البابوات، ولا من اسطنبول وارثة الصدر الأعظم وآخر الخلفاء المسلمين. أما الاستسلام للإستعصاء فغير مفيد، وبديله التفكير خارج الصندوق الحديدي والاعتراف بأن مركزية الدولة باتت عائقاً أمام تطلعات معظم اللبنانيين.
“نواب التغيير” مثل الأكثرية النيابية والشعبية يعرفون بأن قضية السلاح غير الشرعي معقدة ولن تحلّ بالقوة بل- إذا أمكن- تدريجاً وبتقسيطٍ مريح، فلا غرابة لو سار المبدأ نفسه على “تمدين” القوانين أيضاً، بدعم لامركزية موسعة تنتقي عبرها “المكونات اللامركزية” قوانين عيشها وأساليب اجتماعها بما لا يتعارض مع روح دستورنا المدني ولا يتجاوز ميثاق العيش المشترك.
إستنفدت “الجمهورية الثانية” مركزيتها الشديدة، فلم تنتج سوى هيمنة وكوارث على كل صعيد. لنقلُب الآية فنجرِّب اللامركزية وإدارة التنوع داخل الوحدة، وليهنأ بخياره من يفضل التشدّد الديني أو السلاح غير الشرعي.