المسافة بين شارع أسعد الأسعد في الشياح وشارع سيدة المراية وكنيسة سيدة الخلاص في عين الرمّانة أقلّ من 500 متر. ولكنّ هذه المسافة بالأمتار لا تختصر المسافة بين الحرب الأهلية التي اندلعت في 13 نيسان 1975 والحرب الأهلية التي يحكى عنها اليوم. ليس من حتميّات القدر أن يعيد التاريخ نفسه في المكان نفسه وإن كان المشهد الأمني يستحضر كل يوم ذكرى بوسطة عين الرمانة.
صحيح أن كل الظروف كانت هيّأت لانفجار الحرب في 13 نيسان 1975. كانت الطريق من مخيّمات الضاحية الجنوبية وبيروت في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة إلى مخيّمات الضواحي الشرقية في جسر الباشا وتل الزعتر تمرّ في عين الرمانة. ولكن في ذلك الأحد في 13 نيسان ربما كانت مرّت تلك البوسطة من دون ضجيج لو لم يكن قد حصل قبل ساعات ذلك الحادث أمام كنيسة سيدة الخلاص حيث كان يتمّ الإحتفال بتدشينها بحضور رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل ولو لم يكن جوزف أبو عاصي قد سقط شهيداً ورسمت دماؤه على الأرض خطاً أحمر بين مرحلة ما قبل ومرحلة ما بعد.
ليلة 6 حزيران
في 6 حزيران الحالي حاول عدد كبير من الذين كانوا يهتفون “شيعة شيعة” النفاذ إلى داخل عين الرمّانة من طريق صيدا القديمة وشارع أسعد الأسعد وهم يهدّدون ويتوعّدون بالإنتقام والردّ على من يطالب بسحب سلاح “حزب الله” وتنفيذ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004 ويدعو إلى نزع هذا السلاح. على رغم وجود مواقع للجيش اللبناني عند بعض نقاط العبور إلى عين الرمّانة على طول ما كان يشكّل خط التماس استطاع هؤلاء المشحونون بالكراهية والغضب أن يتوغّلوا باتجاه سيدة المراية ولكن تصدّي أبناء عين الرمانة لهم وتدخّل الجيش اللبناني بعد استقدام تعزيزات عسكرية أعادهم من حيث أتوا وهم يسمعون هتافات باسم القوات اللبنانية آتية من قلب عين الرمّانة.
لم تكن تلك المرّة الأولى التي يحاول مثل هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم مدافعين عن سلاح “حزب الله” الدخول إلى عين الرمّانة. قبل أشهر وفي عزّ تحركات ثورة 17 تشرين حاولوا أن يدخلوا ولاقوا النتيجة نفسها. يومها كانت مسيرة نسائية من عين الرمّانة إلى مدخل شارع أسعد الأسعد رفضاً للحرب الأهلية. ولكن يبدو أن الدرس لم يتمّ استيعابه وأن التظاهرات السلميّة لا تلغي النوايا العدائيّة والإحساس بتفوّق القوة وصرف نفوذ السلاح على الأرض. ولكن في المرتين تمّ اختيار العنوان الخطأ. وفي المرّتين أيضاً لم تتجدّد الحرب الأهلية.
عندما لم يكن السلاح شيعياً
قبل 13 نيسان 1975 لم يكن السلاح شيعياً. كان فلسطينياً. لم يكن هناك وجود فاعل لما يمكن تسميته حالة شيعية حتّى. كان القرار للفلسطينيين ولمن معهم من الحركة الوطنية والأحزاب اليساريّة. كانت حركة أمل لم تولد بعد. وطبعاً “حزب الله”. الإعلان عن ولادتها كان في تمّوز من ذلك العام بعد انفجار داخل مخيّم تدريب في عين البنّيه في منطقة بعلبك. وكان رأس الهرم الشيعي يتمثّل بالإمام السيّد موسى الصدر الذي اعتصم رفضاً للحرب ووقف ضدّ محاولة الهجوم على زحلة وعلى دير الأحمر معتبراً أنّ من يطلق النار عليهما كـأنّه يطلق النار عليه. قبل الحرب كان السيّد موسى الصدر قد أعلن أن “السلاح زينة الرجال” ولكنّ المشكلة الشيعيّة كانت أيضاً مع السلاح الفلسطيني. ثمة تواريخ كثيرة لاشتباكات حصلت بين الطرفين إلى حد رفض أن يكون هذا السلاح حاكماً في الجنوب وقد تمّ تحميله مسؤولية الإجتياح الإسرائيلي في 14 آذار 1978 الذي أدّى إلى صدور القرار 425. وقد كان السيد موسى الصدر متمسكاً بأن يتمّ تنفيذ هذا القرار وبأن يتمّ إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب للخلاص من الفوضى والسلاح الفلسطيني وقد دفع نتيجة هذا الخيار حيث أنه عندما ذهب إلى ليبيا في 25 آب 1978 إنما كان يقوم بجولة عربية دعماً لهذا الخيار الذي لم يكن خيار القذافي ولا منظمة التحرير.
ما رفضه موسى الصدر في العام 1978 لا يمكن أن يفرضه “حزب الله” في العام 2020. ثمة سلاح واحد اليوم خارج إطار الشرعية اللبنانية هو سلاح الحزب. موقف الشيعة من السلاح الفلسطيني قبل العام 1982 لا يبتعد عن موقف اللبنانيين الرافضين اليوم لسلاح الحزب حتى لو كان رئيس حركة أمل نبيه برّي قد وقف رافعاً يديه مودعاً ياسر عرفات وهو يركب الباخرة مغادراً بيروت في آب 1982. دور السلاح الشيعي كان قد بدأ يتبلور بعد هذا الخروج الفلسطيني. البندقيّة الشيعيّة خاضت حروباً كثيرة. لعلّ أهم حربين كانتا الحرب بين أمل والمخيمات والحرب بينها وبين “حزب الله”. بعد العام 1990 لم يعد هناك إلا بندقية الحزب وصواريخه. المشكلة التي يواجهها لبنان اليوم هي في معادلة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله التي تقول أن السلاح يحمي السلاح.
تجربة 7 ايار
عندما أعلن نصرالله ذلك كانت وجهة سلاحه نحو شوارع بيروت والشويفات وعاليه والشوف في 7 أيار 2008. صحيح أنه يتحدّث عن أنّه لا يريد أن تحصل حرب أهلية ولكن ماذا يمكن أن تسمى تلك المواجهات غير أنّها كانت حرباً أهليّة. لذلك لا تتوقف المسألة اليوم عند حدود الشياح – عين الرمانة. ثمة خطوط تماس كثيرة تبدّلت وشارع سيدة المراية لم يعد العنوان المناسب للعودة إلى تلك الرواية عن تلك البوسطة.
يدرك “حزب الله” أنه لا يستطيع أن يخوض وحده حرباً ضدّ الجميع حتى لو لم يكن هناك سلاح لدى الجميع. هناك مشكلة بينه وبين مكوّنات كثيرة وشوارع كثيرة، بغض النظر عن المواقف السياسية المعلنة التي لا تعبّر بصدق عما يختلج في تلك الساحات، من تيار المستقبل إلى الحزب التقدمي الإشتراكي إلى القوات اللبنانية. كثيرون ربما انتظروا أن يبدأ إطلاق النار من عين الرمانة ضد هؤلاء المتهورين الذين كرروا محاولات الإعتداء على أهاليها ودخلوا إلى شوارعها ولكنّ مثل هذا الأمر لم يحصل. ثمّة رهان مستمر على أن الدور الأمني لا يمكن أن يقوم به إلّا الجيش اللبناني. وحتى اليوم لا يبدو أن هذا الجيش لا يريد القيام بهذا الدور. الصورة لم تكن كذلك قبل 13 نيسان 1975. كان الجيش قد استقال من مهمّته الأمنية ومن دوره في الحفاظ على الإستقرار بسبب شلل القرار السياسي والإنقسام الطائفي والعمل على تقسيمه. كانت هناك خطط لكي تبدأ الحرب وكان هناك تسليح وتدريب قبل الحرب وكانت هناك حرب باردة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية وكان هناك الدور السوري في ظل نظام حافظ الأسد وكان هناك سعي محلّي مؤيّد للسلاح الفلسطيني ويهدف إلى تدمير النظام اللبناني الذي قام في العام 1920 لإقامة نظام جديد.
الصورة المعكوسة
في العام 1975 لم تكن الحرب خطاً أحمر. اليوم تبدو الصورة معكوسة. في العام 1975 ارتسمت خطوط تماس تبدّلت وتغيّرت قبل دخول الجيش السوري وبعده. ثمة خط تماس اليوم بين “حزب الله” وبين أكثر من شارع. ولكن على كل هذه الخطوط ينتشر الجيش اللبناني. لا يمكن أن يكرّر الحزبُ ما حصل في 7 أيار وهو يستعين بالمجموعات التي تحمل العصي وتنزل هاتفة “شيعة شيعة”. منذ 17 تشرين باتت هناك خطوط تماس مع شارع الإنتفاضة. أكثر من غارة حصلت على خيام ساحتي رياض الصلح والشهداء وعلى جسر فؤاد شهاب ومن خارج هذا السياق على مداخل الأشرفية وعين الرمانة ومناطق الكولا والمزرعة والطريق الجديدة وفي سعدنايل وبر الياس وتعلبايا. ولكن صورة الوضع لم تتبدّل. والسؤال لم يتغيّر. والمشكلة مستمرة.
ثمّة حرب دائرة ولكن من دون إطلاق رصاص. الأمر كلّه يتعلّق بدور الجيش اللبناني وبالإجماع على أنه وحده سيكون الضامن للإستقرار ولمنع الإعتداءات أو استعمال السلاح من أجل حماية السلاح.