بيروت، تلك العاصمة التي كان يتغنّى بها الشرق والغرب، والتي كانت قبلة لمن عشقوا ويعشقون لبنان، تحوّلت مضرب مثل لتراجعها على كلّ المستويات، وتحوّلت من عاصمة كانت تتمتّع بالكثير من المزايا إلى مدينة فقدت رونقها وعزّها، وكان ينقصها انفجار الرابع من آب في المرفأ كي يدمّر وسطها وأحياء تراثية وسياحية فيها.
ليست بيروت وحدها تعاني، بل إنّ كلّ لبنان قد تحوّل لبنان آخر، لا يشبه لبنان التعدّدية والثقافة والانفتاح على الحضارات، فتحوّل أرضاً للجهاد ميزتها الحروب والقتل والتخلّف والقضاء على كلّ مظهر من مظاهر الحياة والسلام والحرية، وكأنّ بمن يأخذنا نحو تلك الهاوية يعيش في الظلام لا يعرف النور ويكره الحضارة.
هذا الواقع مرجّح للإستمرار والتطوّر نحو الأسوأ، لأنّ القوى العاملة على هذا التخلّف للبلد لا تزال مُمسِكة بالقرار وبمفاصل الدولة، وتسعى لجرّه نحو مثلها الأعلى في محاربة أي تقدّم ورقيّ لتحيل لبنان إلى جحيم بالفعل، يشبه تلك الدول التي تسلب عقول أهلها باختراع أكاذيب عن أمجاد وبطولات وهمية، وعن قائد يصارع طواحين الهواء، فيما هم يرونه بأنّه يصارع تنّيناً من الأساطير.
إن تغيير هذا الواقع لم يعد ممكناً بالوسائل التقليدية التي قد يسمّيها البعض الوسائل الديموقراطية، فأصوات المقترعين في الانتخابات مثلاً، لا يمكنها مواجهة ترسانة للأسلحة من يمتلكها مستعدّ لأن يطلق النار ساعة يشاء من أجل الإبقاء على مصالحه ومشاريعه، والتظاهرات لا يمكنها أن تسقط منظومة محمية بالسلاح وبالمال، وهناك من هو مستعدّ في المقابل للموت في سبيلها حتّى ولو لم يكن يملك في هذه الدنيا سوى روحه ودمه، والكتابات ورفع الصوت لم تعد سلاحاً فتّاكاً يثير الرأي العام، ففي وجهها سلاح بكواتم للصوت، ومن دونها مستعدّ أن يطلق الرصاص على رأس أي مفكّر أو كاتب أو صحافي يتجرّأ على قول الحقائق وتبيان الأكاذيب والتأثير في عملية غسل الأدمغة.
قد يظنّ البعض في هذا الكلام دعوة الى مواجهة العنف بالعنف والسلاح بالسلاح، وقد يكون هذا الأمر مشروعاً لدى البعض في ظلّ ظروف معيّنة تحتّم هذه المواجهة. ولكن قبل الوصول إلى خيارات كهذه، يجب أن يدرك الطرف المسيطر أنّ العنجهية والاستكبار الحقيقي هما تجسيد لنهاية رسمها القول المأثور: “ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع”.