في 13 نيسان 1975، يستحضر اللبنانيون ذكرى الحرب الأليمة. تنسج كل طائفة تجاربها مع التاريخ المؤلم، محاولة رسم مسار الاحتراب انطلاقاً من رؤيتها وموقعها فيه. لم تتمكن ذاكرتنا إلى الآن من معالجة الآثار المترتبة على كلفة النزاعات عبر ترسيخ «ذاكرة عادلة» محصنة ضد العنف الأهلي، قادرة على فهم الماضي والاعتراف بالإساءة والمقدرة على الغفران، كما يجترح الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه: «الذاكرة، التاريخ، النسيان».
من يراقب أحوال اللبنانيين منذ توقيع اتفاق الطائف (1989) وهو التاريخ الرسمي المعلن لإنهاء الاقتتال، يلاحظ أننا أمام صراع للذاكرات، برغم المحاولات الدؤوبة التي يضطلع بها أكاديميون ومؤرخون وناشطو المجتمع المدني في سبيل توطيد «ذاكرة غفرانية». ثمة مؤشرات كثيرة تبرهن على عدم التعلم من تجربتنا، فعند كل توتر أمني أو حين تشعر أي طائفة بقلق على وجودها وهويتها، تحضر رموز الحرب على جدران مدينة بيروت. ماذا يعني ذلك؟ يمكن الحديث عن فشل في التأسيس لذاكرة وطنية رادعة. نحن مدججون بالرموز الإلغائية، رمز الطائفة، رمز المذهب، رمز الاتهام والإدانة. نفتقد إلى مناعة وطنية قادرة على توطيد أرشيف الذاكرة المناهض للعنف الأهلي. تنزف الذاكرات في صراعها المحموم مع الماضي حين لا تلتئم الجروح، وعندما تتصالح مع تاريخها، فهماً وإدراكاً ومواجهة، تتقلص بشكل تدريجي الندوب والصدامات الجرحية، فيتراجع ثقل الذاكرة الانتقائية القلقة والمضطربة، من خلال التأسيس لسياسات الذاكرة التي تضع على سلم أولوياتها «إحياء الذكرى» والتعويض على ضحايا الحرب وتكريس المصالحة، وهي جزء من شروط العدالة الانتقالية.
اجترح الألمان مصطلح «التغلب على الماضي» في إشارة «لإعادة ترتيب الماضي بطريقة تجعل ذكرياته تكف عن كونها عبئاً على الحاضر» (مجلة فكر وفن 98، إصدارات معهد غوته). يتفشى عبء الماضي، ماضي الحرب، في ذاكرات اللبنانيين، وهو يتخذ مساراً ثلاثياً: حضوره الكارثي بيننا بكل رموزه وتقنياته ووسائله وشخوصه؛ وراثة الأجيال لذاكرة الطوائف المؤدلجة بدل التأسيس للذاكرة الوطنية؛ تفشي الأرشيف الطائفي الثأري عوض النهوض بأرشيف تاريخي جماعي يحلل بنى العنف للوصول إلى ذاكرة مبحوثة تماثل تاريخها من دون طمس أو تشويه.
في دراسة تحت عنوان: «حل النزاعات: مسار المصالحة الوطنية والانتقال الديموقراطي» يقترح الأستاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية طوني جورج عطا الله مجموعة من الخطوات المستفادة من التجربة اللبنانية في سبيل بناء ذاكرة عادلة من دون حقد وانتقام. من بين المقترحات التي قدمها الخروج من الذاكرة الحاقدة إلى «ذاكرة التوبة القومية» والعمل على تنظيم مساحات للذاكرة. يرى أنه من الأهمية عزل الذاكرة عن شحنتها العاطفية أو المشاعرية: «لننسَ ولكن لنستذكر» و»لنخرج من حالة الصدمة» وحتمية التكرار من خلال آلية لمقاومة الفتنة وبناء مناعة الذاكرة. يتحدث أيضاً عن خطوتين على علاقة مباشرة بتاريخ الذاكرة الوطنية. الأولى، الحاجة إلى ختم ملف الحرب؛ والثانية، إنشاء متحف وطني ومتاحف محلية للذاكرة بوصفها أماكن ذكرى ومراكز لجمع وتوثيق أدب المعاناة. لم يجرِ إلى الآن تشييد نصب تذكاري لشهداء وضحايا الحرب الأهلية، ولم تحدث أي خطوة رسمية من قبل الحكومات المتعاقبة في سبيل توثيق جرائم الحرب. في مدينة كولونيا الألمانية جرى وضع سبائك نحاسية بأسماء ضحايا النازية تحتوي على معلومات عنهم تفرض على المارين التعثر بها والتوقف عندها، وهو مشروع ارتقى فيما بعد إلى مشروع عالمي الأبعاد وصار أحد أشهر المشروعات الثقافية الأوروبية في مجال إحياء ذكرى الضحايا (كي لا ننسى: سبائك نحاسية بأسماء الضحايا، مجلة فكر وفن 98، إصدارات معهد غوته).
يُعد «إحياء الذكرى» من أولويات العدالة الانتقالية وهو جزء من تحقيق العدالة والمحاسبة، لا بد أن يصاحبها التسامح والصفح مما يساعد على تهدئة الذاكرة والتخفيف من توترها وانجرافها إلى الماضي الجاري الصراع عليه. النتيجة الأهم والأنجع في سياسات الذاكرة للمجتمعات التي تخرج من الحروب الأهلية إلى حقبة السلم، أخذ العبر والدروس وعدم تكرار التجارب السابقة والتأسيس لمناعة وطنية ضد العنف الأهلي والإفادة من أخطاء الآخرين الذين تورطوا في النزاعات التي تُدفع كلفتها وخسائرها غالباً من قبل الأجيال الجديدة.
من حق الجيل الشبابي الذي يكتسب ذاكرته من الشارع والعائلة والحي ووسائل الإعلام ولا يصدق ما يُكتب في كتب التاريخ بسبب الأدلجة والتوجيه ـ كما يلاحظ أنطوان مسرة ـ معرفة حقيقة الانتهاكات التي جرت في الحرب الأهلية من أجل تحقيق الشفاء الجماعي من ثقل الموروث العنفي الراسخ في الأماكن والأحياء وذاكرات الطوائف. إرادة الغفران من المهم أن ترافقها مرحلة عملية كتابة التاريخ بهدف التأسيس لذاكرة جماعية لا تكرر التجارب. غير أن ديكتاتوريات الطوائف عندنا تعمد إلى تشريع وجودها عبر إنكار ما ارتكبته من انتهاكات وفظاعات، فتتلاعب بالسرديات التاريخية وتحيل أخطاءها على الطرف الآخر في النزاع، ما يؤجج صراع الذاكرات ويحول دون النهوض بتاريخ وطني مشترك.
من ضمن مرتكزات العدالة الانتقالية إستراتيجيات «جبر الضرر» المرتكزة على أربعة أسس: عودة المهجرين، التعويض، إعادة التأهيل، الترضية: الاعتذارات والإقرار بالمسؤولية. تتميز الترضية من خلال الاعتذار والإقرار بالضحايا بوظيفة مهمة في مجال «جبر الضرر» الذي يهدف إلى الإقرار بمحنة الضحايا وتحويلها إلى قضية عامة، بدلاً من معاملتها كتجربة فردية. وتصل أهميتها إلى ذروتها مع إقرار الدولة بمسؤوليتها عن الجرائم، سواءً الارتكاب المباشر للجرائم أو التقصير عن منعها، وتُصدر اعتذاراً رسمياً للضحايا. لم تقدم الدولة في لبنان اعتذاراً رسمياً وشاملاً، بل جرت بدلاً من ذلك مبادرات فردية قليلة، من قبل قادة سياسيين وزعماء طوائف تصدَّرها وليد جنبلاط وسمير جعجع. (راجع: عدم التعامل مع الماضي أي تكلفة للبنان؟ تقرير صادر عن المركز الدولي للعدالة الانتقالية، كانون الثاني، 2014).
تساءل عالم الاجتماع سمير خلف: كيف يتمكن مجتمع مشروخ ومتعدد، تحيطه أسرار الصراع الأليمة في ماضيه من دمجها في الهوية الوطنية والذاكرة الجمعية؟ يضعنا هذا التساؤل أمام صعاب كثيرة، أهمها كيفية توطيد السلام في النفوس وحمايتها من الحروب الدورية القابضة على حاضرنا ومستقبلنا. لن يتحقق سلامنا إلاّ بفعل الصدمة الإيجابية مع ماضينا المؤلم. وقد آن الأوان للخروج من فترة الحداد والبدء بمرحلة جديدة تؤدي إلى تطبيق العدالة الانتقالية بكل مراحلها وشروطها.