أربعون عاماً على شرارة حربٍ اختلفت تسميتها بين شرق بيروت وغربها ما بين «حادثة» أو «مجزرة» البوسطة، اهتزّت أعمارنا على وقع اهتزاز لبنان، ولكن هل يملك كثير من اللبنانيّين جرأة كشف حقيقة تواطئهم على أنفسهم وعلى وطنهم ـ شخصيّاً ـ أشكّ في ذلك كثيراً، ولأسباب نراها تعيد صياغة نفسها بأسماء وعناوين مختلفة، هذا تاريخٌ من الحروب المتكرّرة التي لن تنتهي ـ وهذا أصدق القول ـ ونظرة على تاريخ لبنان تكفي القارئ ليصدّق أننا لا نكذبه القول، على الأقل إذا راجعنا تاريخنا على مدار قرنيْن، سيُدرك أنّنا نعيش في وطن تحكمه الطوائف مهما اختلفت أسماؤها وارتهانها لمصالح دولٍ أخرى، ولنأخذ من تاريخنا في منتصف القرن التاسع عشر، ولاء الطائفة الدرزيّة لبريطانيا العظمى وولاء الطائفة المارونية لفرنسا، وحرب الـ 1860، وهي مشهد سيتكرّر مراراً في المشهد اللبناني مع اختلاف أسماء الطوائف!!
تماماً كما بدأ لبنان يهتزّ تحت وطأة الوجود الفلسطيني المسلح الذي تمّ تصدير أزمته إلى لبنان حماية للأردن، منذ أيلول العام 1970، بدأت بعدها إرهاصات الحرب المقبلة واضحة للعيان منذ ارتضى لبنان في اتفاقية القاهرة أن يُشرّع العمل العسكري انطلاقاً من حدوده الجنوبيّة باتجاه الأراضي الإسرائيليّة (الفلسطينيّة) هذا المشهد عرفه تاريخ لبنان أواسط القرن التاسع عشر مع اندلاع اشتباكات طائفية تمهيديّة امتدت من العام 1840 حتى العام 1845 بين الموارنة والدروز، لاحقاً تصاعدت التوترات وعندما هدد البطريرك الماروني بولس بطرس مسعد، الأمير الدرزي مصطفى باشا، بطرد الدروز من لبنان بقوة قوامها 300,000 رجل، وللمفارقة سيتكرّر التهديد بطرد المسيحيين من لبنان في العام 1975، واندلعت مجازر العام 1860 في لبنان عندما بادر الدروز بالهجوم على الموارنة، بلغ عدد القتلى من المسيحيين حوالى 20,000 كما دمرت أكثر من 380 قرية مسيحية و560 كنيسة، وحتى اليوم يتهم الكثير من المؤرخين المسلمين زملاءهم المسيحيين بأنهم أرخوا فقط لمن سقط من الجانب المسيحي وتعمّدوا طمس أعداد القتلى في الجانب الدرزي!! وللمفارقة؛ حتى اليوم لم يتفق اللبنانيّون بعد منذ إقرار اتفاق الطائف على كتاب «تاريخ موحّد» لاختلافهم على رواية الحرب الأهلية التي اندلعت في 13 نيسان العام 1975، أليس هذا تاريخ يُعيد نفسه!!
بداية حرب العام 1860 استخفّت بعقل التاريخ وعقولنا، برواية تقليدية بعد نزاع بين طفلين درزي وماروني من دير القمر، فتدخلت عائلتيهما ومن ثم طائفتيهما، فيما حرب العام 1975 احتاجت إلى «رواية البوسطة»، أليس هذا تاريخٌ يُعيد نفسه؟! والأحداث الدامية التي وقعت في العام 1860 استدعت تدّخل فرنسا بعدما تبين دعم القوات العثمانية للقوات الدرزية بشكل مباشر أو بنزع سلاح القوات المسيحية، فأشارت فرنسا، بقيادة نابليون الثالث، إلى دورها التاريخي كحامية للمسيحيين في الإمبراطورية العثمانية بحسب اتفاقية بين الطرفين وقعت في العام 1523، فوافق العثمانيون في 3 آب على إرسال قوة أوروبية مؤلفة من 12,000 جندي لإعادة النظام، وفي 5 تشرين الأول 1860، اجتمعت لجنة دولية مؤلفة من فرنسا وبريطانيا، والنمسا وبروسيا والإمبراطورية العثمانية للتحقيق في أسباب أحداث 1860 والتوصية بنظام إداري وقضائي جديد للبنان يحول دون تكرارها، ألم يتكرّر هذا المشهد في اجتماع النواب اللبنانيين في الطائف السعوديّة بإيعاز ورعاية دولية، ووضع اتفاق الطائف الذي للمفارقة أقرّ نظاماً سياسيّاً وإدارياً وقضائياً معدّلاً وجديداً للبنان!! أليس هذا تاريخٌ يُعيد نفسه؟!
أربعة عقود انقضت من عمري منذ بدأت الحرب، كنت في العاشرة، عندما أتأمل هذه الأعوام الأربعين، أشعر بحزنٍ كبير على طفولة سُرقت منّا وهجرتنا إلى ملاجئ الخوف، شممنا رائحة الموت ولم نكن نعرف أن للموت رائحة، وشعرنا برهبة ملائكة الموت تخيّم وتتنزّل من سمائنا ولم نكن نعرف أن للموت ملائكةٌ تنتابك من حفيف أجنحتها قشعريرة الرهبة، اليوم بعدما تجاوزت عتبة الخمسين، لا أصدّق أن الحرب الأهلية انتهت، النار ما زالت تتأجج تحت الرماد، وهبّت ريحٍ أقوى من التي تضرب المنطقة اليوم كفيلةٌ بإشعالها من جديد، وأدرك أنّ اللبنانيين لم ولن يتعلّموا من كلّ تاريخهم، ها نحن اليوم نَهْبَ المحاور الإقليميّة، والبلد ممزّقٌ كأننا عشية نيسان العام 1975، فما الذي تغيّر، أليس هذا تاريخٌ يُعيد نفسه؟!
في 12 حزيران من العام 2012 وعلى طاولة الحوار هدّد نائب حزب الله محمد رعد قائلاً: «إذا استمر الوضع على هذا المنوال فالبلد مُقبل على أحداث أمنية وحرب أهلية تكون حرب العام 1975 مجرّد «picnic» بالنسبة إليها»!! وقبله ألم يُهدّدنا رئيس حزبه حسن نصرالله بأنّه كان يمكن أن يلقي بنا في البحر ويَزجّ بنا في السجون؟! أليس هذا تاريخٌ يُعيد نفسه، أعتذر.. الحرب الأهلية لم تنتهِ بعد… نحن «شلْعات» طوائف الواحدة تلو الأخرى تُعيد إشعال الحرب وتجرّ لبنان إلى الويلات، من الدروز إلى الموارنة إلى السًنّة الذين ناصروا الاحتلال العثماني والناصري والفلسطيني والسوري ضدّ لبنان، إلى الشيعة الذين يختبرون اليوم نفس تجارب الطوائف التي بلغت ذرورة قوتها ثم انكسرت وسحقتها قوانين الحرب ومموّليها ورعاتها في الخارج، الآن دور الشيعة وعلى يد حزب الله الذي سيقودهم إلى نكبة كتلك التي نزلت عبر تاريخنا بطوائف لبنان..، لا.. الحرب الأهلية لم تنتهِ بعد، وستبقى «تنذكر» وستبقى «تنعاد»!!