شنّـت رئاسة الجمهورية حملة واسعة النطاق في الصحف والمواقع الإلكترونية بهدف توضيح موقفها من قضية الصلاحيات وما يُثار من حديث عن هذه المسألة.
يمكن إختصار الموقف بما «أفادت به مصادر وزارية مطلعة على موقف القصر أنه ردٌّ الأصوات التي صدرت على أثر الجلسة الأخيرة مجلس الوزراء في السرايا صدرت تعارض عدم استكمال تعيينات أعضاء المجلس الدستوري الا في جلسة يرأسها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وبالتالي عدم انجازها في هذه الجلسة برئاسة رئيس الوزراء سعد الحريري، وذهبت هذه الأصوات الى القول إن في الأمر استباحة للطائف ولصلاحيات رئيس الحكومة. ولفتت الى ان بعضها إتهم رئيس الجمهورية بالتفرد بسياسة الدولة العامة والتفرد بالقرارات».
واعتبرت «ان هذا الكلام هو محاولة للإساءة الى علاقة التعاون القائمة بين الرئيسين عون والحريري والتي يحرصان عليها وقد أظهرت الأحداث انها لم تتأثر بالمواقف من هنا وهناك». وأوضحت ان «رئيس الجمهورية أظهر ابتعاداً كاملاً عن الحملات التي تعرض لها رئيس الحكومة اخيرا انطلاقا من طبيعة العلاقة التي تربطه به».
تفكيك التوضيحات الرئاسية
جاهرت رئاسة الجمهورية بحقيقة موقفها بدون مواربة، وإختار الرئيس عون المواجهة المباشرة في نقطةٍ تعتبر الأكثر حساسية وخطورة، كونها تتناول جوهر صلاحيات رئيس الحكومة. فـ«رئيس الجمهورية ليس خيال صحراء» كما قالت المصادر الوزارية.
صحيح أنه لا يجب أن يكون كذلك، لكن إثبات الحضور لا يكون بإحتجاز المراسيم ورهنها لأسبابٍ وخلفياتٍ طائفية، يعلنـُها بكل وضوح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل وتسكت عنها رئاسة الجمهورية كما تسكت عن إشتراط المناصفة الشاملة في كل الوظائف كشرطٍ لتوقيع تلك المراسيم، مع كل ما يحمله هذا الموقف من ظلم للبنانيين نجحوا بجدارة ويُحرمون من حقهم في الوظيفة فقط لأنهم مسلمون!!
ولا يستعيدُ رئيس الجمهورية صلاحياته بتغطية الممارسات الإستفزازية الخطرة لرئيس تياره (جبران باسيل) الذي يتعمّد تسخين الأجواء الطائفية والمذهبية ونبش القبور وإحياء الصراعات وتحويل شعار بقاء المسيحيين إلى ذريعة لإستهداف سائر المكوّنات اللبنانية، من دون أن يحظى كلّ هذا الضجيج المفتعل بأيّ تعليقٍ من رئاسة الجمهورية.. وإنفجار الوضع في الجبل ودخول هذا النفق المظلم بعد حادثة قبر شمون نموذج عن خطورة هذا النهج الإستفزازي المتمادي.
ولا حضورُ الرئاسة يكون بالسماح بتعميم الإنقسام ورعايةِ وتغطيةِ الخيارات الطائفية، كما هو الحال في دعم رئيس بلدية الحدث الذي أعلن أن الرئيس عون إتصل به وأيّده في قراره المخالف للدستور والعرف والعيش المشترك، والمتمثـّل بمنع بيع وتأجير المسلمين في للنطاق البلدي للحدث، ولم يصدر أيّ نفيٍ لهذا التصريح.
حقيقة المشكلة
ذكرت المصادر الوزارية إياها أن «رئيس الجمهورية هو صاحب التوقيع الأخير على المراسيم والقوانين ومنها مراسيم التعيينات وغيرها وترؤسه جلسة تصدر فيها تعيينات أمر طبيعي كما هي حال ترؤسه جلسة لا تعيينات فيها ومن حقه اذاً ترؤس أي جلسة لمجلس الوزراء».
ومع أن مسألةَ صاحبِ التوقيع الأخير تحتاج إلى نقاشٍ دستوريّ في ظلّ إمكانية ردّ المرسوم الرئاسي، إلا أن المشكلة ليست في أن يترأس رئيس الجمهورية جلسة الحكومة، لكن المعضلة الكبرى هي أن تكون جلساتُ التعيينِ محصورةَ الإنعقادِ في قصر بعبدا، وأن يكون رئيسُ الحكومة ممنوعاً من الناحية الفعلية من ترؤس جلسةٍ تحضرُ فيها التعيينات على جدول الأعمال.
حقيقة الدفاع عن رئيس الحكومة
توجهت المصادر الى الذين يتهمون رئيس الجمهورية بتجاوز صلاحيات رئيس الحكومة قائلة: «راجعوا التاريخ والاحداث فالرئيس عون اكثر من دافع عن صلاحيات الرئيس الحريري وأي قرار يصدر يخضع لموافقة رئيس الجمهورية».
وهنا نتساءل: هل المقصود هنا موقف الرئيس عون خلال أزمة إستقالة الرئيس الحريري من السعودية ؟ أم المقصود مسائل أخرى؟
فالتاريخ الذي عشناه منذ تولي الرئيس عون الرئاسة كان حافلاً بمحاولات تحجيم رئاسة الحكومة، والجميع يذكرون التهديدات الرئاسية خلال فترة التكليف للحريري باللجوء إلى مجلس النواب لنزع التكليف عنه وإعادة تركيب المشهد السياسي وما تلا ذلك من ممارسات قام، ويقوم، بها جبران باسيل ضد الحريري بدعمٍ وتغطية كاملَين من رئاسة الجمهورية..
كيف يكون الحَكَمُ طرفاً؟
وضَعَ الرئيس عون عنوناً بارزاً لعهده هو التخلي عن صفة الحَكَم ليصبح الحاكم تحت شعار أنه «ليس خيال صحراء»، والخطوة العملية لهذا التوجه هي التحكّم بالحكومة، وهو سبق أن صرّح لـ«الجمهورية» أن «الحاجة لـ«الثلث المعطل» انتفت لأن مجرد غيابي عن مجلس الوزراء يكفي حتي يصبح انعقاده متعذرا»؟!
وهذا مخالفٌ لروح ومضمون المادة 53 التي تنص على حق رئيس الجمهورية في حضور مجلس الوزراء متى يشاء وترؤسه له من دون أن يشارك في التصويت. وهنا تكمن إشكالية التغيير السياسي الغير دستوري الحاصل، ومن الضروريّ التذكير هنا بأن التوازنات التي أرساها الطائف لا يمكن تغييرها بدون أن يكون لهذا التغيير تداعياتٌ خطرة على التكوين السياسي للبلد.
الحكم الرئاسي يستهدف صلاحيات رئيس الحكومة
ما يفعله الرئيس عون هو أنه يريد أن يكون الحاكم الذي يصوّت مع كتلته الوزارية في إتجاهاتٍ سياسية وإدارية محدّدة في إطار الإنقسام والصراع السياسي، وفي هذه الحال يبرز السؤال: كيف يكون رئيس الجمهورية رمزاً للبلد إذا كان خصماً لفئة وحليفاً لفئة أخرى، وكيف يكون «بيّ الكل» إذا دخل في لعبة إقتسام الحصص والمواقع فيعطي حزباً ويحاصر حزباً آخر، ويطلب لنفسه الحصص، كما هو الحال في طلبه تعيين مدير الوكالة الوطنية للإعلام مقابل الموافقة على تعيين مدير عام لتلفزيون لبنان، وهو ما ذكره الرئيس عون شخصياً خلال الحوار في الأول من تشرين الثاني 2018 نظـّمته الرئاسة في قصر بعبدا بمناسبة مرور سنتين على حكم الرئيس عون، وهنا تبدو الثنائية الرئاسية– الباسيلية أحد مظاهر هذا العهد من خلال الفصل بين «حصة الرئاسة» وحصة «التيار» للحصل على المزيد من المواقع، وهي باتت تأتي على حساب التوازنات العامة، بحيث أصبحت معظم أطراف اللعبة السياسية متضرّرة منها.
المجاملات للحريري والمشاريع والمواقع لباسيل!
لا تكون إدارة الحكم بالمسايرة ولا بالمجاملات، فلا يمكن قبول أن يكون نصيب الرئيس الحريري المجاملات، وأن يستولي جبران باسيل على المكتسبات والمواقع ويحقـّق الإنجازات والمشاريع، فتبقى مناطق أهل السنة محرومةً قاحلةً ومصحّرة ومواقعُهم في الدولة مستباحة، بينما مناطق باسيل متخمة بالمشاريع والإنماء، وهذه معادلة لا «تركب على قوس قزح» كما يـُقال.
تقوم رئاسة الجمهورية بإطلاق مواقف هي في الواقع مسايرة وإسترضاء شكلي للرئيس الحريري، من خلال القول إن رئيس الجمهورية حريصٌ على صلاحيات رئاسة الحكومة، بينما الممارسة الواقعية تقضم بشكلٍ مكشوف الصلاحيات من خلال ممارساتٍ يُراد تحويلها عرفاً في هذا العهد.
لم يعد الأمر يحتاج خبراءَ في الدستور ليكشفوا مدى الخروقات التي تتعرض لها صلاحيات رئاسة الحكومة، بل إن الرأي العام بات يشاهد «أفلام» القضم الباسيلة الفاضحة التي تضرب عميقاً في نسيج التكوين السياسي والوطني، تحت شعار «الرئاسة القوية» و»حقوق المسيحيين»، وبات رئيس الحكومة مضطراً بين الحين والآخر لإطلاق مواقف «إحتواء» أو «تنفيس» للغضب السني والرفض الوطني لما يجري من إجتياح للصلاحيات والمواقع في الدولة.
ولعل آخر تجلياتها يكمن في إيعاز وزير الخارجية جبران باسيل لوزير الدفاع الياس بوصعب بالإتصال بنظيره الكازاخستاني لمتابعة الأزمة الحاصلة مع بعض اللبنانيين في كازخستان، في ممارسةٍ إستفزازية إضافية تضرب صلاحيات رئيس الحكومة وتجعل من باسيل الرئيس الفعلي لها.
أسوأ أنواع الإستهداف
تجاهلت رئاسة الجمهورية بشكلٍ تام حقيقة حصر إتخاذ قرارات التعيينات في الدولة بالجلسات المنعقدة في قصر بعبدا، وهذا بات مادةً متداولة في الإعلام، حيث باتت الصحف والمواقع الإلكترونية تعتبر أن «الدليل على عدم إقرار التعيينات هو إنعقاد مجلس الوزراء في السراي الحكومي»، وهنا تكمن الإشكالية الحقيقية.
وهذا أسوأ أنواع الإستهداف للرئيس الحريري شخصاً موقعاً، وشكلاً ومضموناً.