لا بد من التحليل الطبقي لفهم قضية نسف سلسلة الرتب والرواتب. ولا بد من التحليل الطائفي لفهم انقسام اللبنانيين حول المقاومة. ولا بد من التحليل الطبقي ـ الطائفي لفهم قضيتي المرفأ والكازينو. وفي لبنان طبقات كما هناك طوائف. للطبقات الدنيا حقوق كما للطوائف. ولو ألغيت حقوق الطوائف وأقرت حقوق الطبقات الدنيا لكنا في وضع أفضل.
لكن لدى كل طائفة في لبنان وعيا بالذات يفوق الانتماء الوطني والطبقي. أما الطبقات فلا وعي لديها بالذات كطبقة؛ إلا لدى الطبقة العليا المستفيدة من كل شيء. النظام يصنف الناس حسب الطوائف، وهم يصنفون أنفسهم كذلك، وإذا امتنعوا من ذلك يحرمون من حقوقهم وما يسمى «الخدمات» التي يقدمها الزعماء لأتباعهم. لذلك يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع لانتخاب ممثلي الطوائف الذين يبقون في مهنتهم حتى ولو لم يمددوا لمجلسهم الكريم.
بدا القائد النقابي الذي كان رأس الحركة الشعبية للمطالبة بسلسلة الرتب والرواتب، كالأيتام على مأدبة اللئام، حين وقف مصرحاً بعد إجراء الانتخابات النقابية، وقد أدرك أن النظام أقوى منه. وأدرك اللبنانيون أنهم محكومون بنظام مهما قيل في ديموقراطية طائفيته، إلا أن المصالح المالية المصرفية هي الأقوى. وقفت هذه المصالح وراء اتفاق أطراف 14 آذار مع 8 آذار لإذلال آخر ما تبقى من الحركة النقابية ولحرمان طبقة واسعة من اللبنانيين من حقوقهم. برهن طرفا الطبقة السياسية في لبنان على أنهما جناحان لحزب واحد تقوده جمعية أصحاب المصارف وغيرهم من الرأسماليين.
فعندما قرر هؤلاء إلغاء الحقوق وتدمير النقابة كان لهم ما أرادوا. تركوا مقعداً واحداً للأستاذ حنا غريب لإذلاله، بل لإذلال طبقته. رأوا أن عليه أن يعرف موقعه، هو أستاذ، مجرد أستاذ في نظرهم، ولا يحق له أكثر من ذلك؛ بالأحرى لا يحق للطبقات الشعبية أن تطالب بأكثر مما «يمنح» لها. وما يمنح لها هو فتات بالنسبة للأرباح التي تُجنى من عمل الفقراء اللبنانيين، عمل العمال والمدرسين والموظفين، في القطاع الخاص والقطاع العام، الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً إلا قوة عملهم.
لماذا يحسب أطراف الطبقة السياسية حساب الطبقة العليا المالية أكثر مما يعطون أهمية للشعب الذي ينتخبهم. الجواب هو أن الطبقة السياسية تعمل لدى المصالح المالية العليا ولا تعمل لدى الشعب. مهمة الطبقة السياسية تطويع الشعب لصالح أصحاب الأمر والنهي الحقيقيين، أي أصحاب المصالح. وكيف يتم تطويع الشعب؟ الجواب أن الطائفية هي سوط التطويع. ولاء الناس لطوائفهم وزعمائها أكبر من ولائهم لأنفسهم ولمصالحهم المباشرة.
الإيديولوجيا أقوى من المصلحة؟ نعم الإيديولوجيا تحدد الانتماء أكثر من الطبقة. وعي الناس لأنفسهم يأتي عن طريق الطائفة لا عن طريق الطبقة، عن طريق إنكار الذات بتأكيد الطائفة لا عن طريق المواطنة. والمواطنة تعني المشاركة في النظام وفي الدولة كأفراد لكل منهم شخصية تقرر حسب تفكيرها. للأسف يقرر الناس ما يراد لهم. هم الضحية التي تجلد نفسها عن طريق الطائفية، عن طريق اللحاق بالقطيع إذ يجد الفرد ملاذاً له هنا لا في طبقته. وقد أريد من إلغاء سلسلة الرتب والرواتب وضرب الحركة النقابية تعميق هذا الوعي.
تساهم الطائفية في تدجين الناس، في النظام الديموقراطي في لبنان، ويتساوى تأثيرها مع مفاعيل أنظمة القمع والمخابرات في البلدان الأخرى. لا يحتاج النظام اللبناني إلى نظام قمعي يستخدم وسائل العنف. تكفيه الطائفية دون عنف مادي. هو عنف معنوي أخلاقي روحي، إلخ… للعنف أوجه متعددة.
سؤال نوجهه إلى فريق المقاومة في 8 آذار؛ هل تعتقدون أن لبنان يمكنه المضي في مقاومة الأعداء، وفي مقدمتهم إسرائيل، من دون بناء مجتمع متماسك؟ وهل يمكن بناء مجتمع متماسك من دون إعطاء أولوية ما للشأن الاجتماعي والمطلبي والسياسي؟ هل الفقر هو طريقنا إلى النجاة؟ هل الهجرة طريقنا إلى البحبوحة؟ حتى الآن لا حل عندنا لإشكاليات الفقر والبطالة سوى الهجرة. فهل تقوم قائمة لبلد يفرغ تدريجياً من سكانه؟ ولا نقول الأصليين؟ لما في ذلك من عنصرية؛ خاصة الوضع المستفحل ضد الإخوة اللاجئين السوريين. وهل نزع السلاح النقابي أقل خطورة من نزع سلاح المقاومة؟
في لبنان انسداد وطني واجتماعي وسياسي واقتصادي. المتنفس الوحيد للانسداد هو النضال المطلبي، الذي نسميه «صراعاً طبقياً» بلغتنا غير الخشبية؛ هو السبيل الوحيد لممارسة السياسة لدى «الطبقات الشعبية». هذا حقها، بل واجبها، من أجل الحفاظ على بعض الحريات والكرامة والوطن والدولة؛ وفي ذلك حفظ للنظام أيضاً. وما لم يمارس الجمهور حقه فإن البلد معرض للتفسخ والاهتراء من الداخل. الخطر الداخلي لا يقل عن الخارجي خطورة.
ليس أخطر على لبنان، كما على كل بلد آخر، من بقاء الداخل راكداً مستنقعاً، من دون حركة، ومن دون صراعات وتسويات. هناك حوارات عديدة، جارية ومزمعة، في غرف مغلقة؛ تطلق بعدها تصريحات غامضة ومبهمة. الحوار الحقيقي هو في الشارع، المجال العام، مجال السياسة الحقيقية، لو أتيح ذلك.
عندما نشبت الحرب الأهلية عام 1975 سبقتها نضالات مطلبية كثيرة. كان الناس يتحركون من أجل معيشتهم وكرامتهم. استطاعت الطبقة المهيمنة أن تحول الصراع الطبقي إلى حرب أهلية عن طريق الطوائف. ساعدت على ذلك عوامل خارجية. لكنها لم تكن حرب الآخرين على الأرض اللبنانية. كانت حرباً خاضها اللبنانيون ضد أنفسهم بوعي خاطئ كرّسته الطائفية. الصراعات الطبقية تمنع الحرب الأهلية.