IMLebanon

نظافة الكف والوجدان ودورها في خلق الأوطان العظيمة

كبار… مرّوا في تاريخ العالم، والمنطقة، ولبنان، وعاشوا حياة سياسية حافلة كان لها أكبر الأثر في تاريخ بلادهم وتقدمها وتطورها، وقد تبوّأ هؤلاء مواقع القيادة والزعامة، وحلّقت أسماؤهم في سماوات عُلى، ولم يذكرهم الناس إلاّ بالخير والدعاء الطيب والإشادة بخُلُقياتهم ونزاهتم ضاربين مثلا منهم، في صدارة زعماء العالم الغربي، الرئيس ديغول، الذي كان له دور لامع في قيادة وزعامة فرنسا العسكرية والسياسية، وضاربين مثلا منهم في صدارة العالم العربي، الرئيس جمال عبد الناصر المشهود له باخلاقياته وقيمه الشخصية وزعامته التي امتدت آفاقها في العالم العربي كله، والذي عرف عنه أنه عاش بعيدا عن ترف الدنيا، ومات وهو لا يملك سوى منزله المتواضع في القاهرة، وهو المنزل نفسه الذي كان يشغله قبل أن يصبح رئيسا وقائدا وزعيما.

ونركز بشكل خاص في هذا المجال، على رجال كبار من لبنان تمتعوا بهذه الصفات، نذكر منهم على سبيل المثال، ونكاد نقول على سبيل الحصر، الرئيس فؤاد شهاب والعميد ريمون إده ، الأول جاء عفيفا نظيفا من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية، والثاني عاش زعيما إبن زعيم وعرف على مدى تاريخ عمله في الحقل السياسي بترفعه عن الصغائر المادية وبنظافة كفه وبعده عن صغائر التصرفات السمسراتية والإستغلالية، وكان يعامل من الناس حتى تاريخ وفاته وكأنه رئيس للجمهورية، متميزا بأهليته للرئاسة وموقعها الحاكم، وقد لعب كل من الزعيمين المذكورين دورا كبيرا في وضع الأسس والقواعد النظامية والإدارية والمؤسساتية لهذا البلد، واشترك من ايدوهما ومن خاصموهما في وضعهما في سدّة متميزة جديرة بكل التقدير والإحترام.

نقول ذلك كله لنؤكد على ظاهرة يتشارك فيها كل اولئك الزعماء الكبار الذين ذكرنا أعلاه. لقد كانت صفة النظافة والعفة في مواقعهم العليا، عنصرا أساسيا دفع بكل منهم إلى النجاح والتميز وفي احتلال أعلى مقامات التقدير في تطوير بلدهم وإعلاء شأنه في الداخل وفي الخارج.

ونقول ذلك بصورة خاصة بعد اتساع حلقات التظاهر المطلبي لدى الفئات اللبنانية كافة، إنطلاقا من بدايات ذات مطالب محددة ومحدودة مرتبطة بالنفايات التي انفلشت على مستوى لبنان كله تقريبا، وقد تمثل ذلك خاصة في الحركة المدنية الأشهر والأسبق إلى الإنطلاق وإلى النجاح في استقطاب جموع غفيرة من المواطنين، والتي عرّفت عن نفسها وعن طبيعة منطلقها للحراك بإسم   « طلعت ريحتكم « ومن ثم لحقت بها جملة من الحركات والتحركات متعددة الألوان والإتجاهات المتناقضة والمتناهضة في دوافعها واتجاهاتها، دون أن يخلو بعضها من اختراقات ذات طابع يدعو إلى الشبهة متعددة الإتجاهات والأوجه، ولئن كان «لطلعت ريحتكم» ولواحقها في بداية الإنطلاق، توسّع غير واقعي وغير مدروس للمطالب، فقد عادت في بيانها الأخير إلى لملمة تلك المطالب وحصرها في مطلبين اثنين: استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، ومحاسبة وزير الداخلية نهاد المشنوق، وكون الوزيرين المذكورين منتميان إلى اتجاه سياسي واحد، يشكل ربما، صدفة «غير مقصودة» لدى هذا الحراك، خاصة وأن الحكومة القائمة مصرّة على اعتبار ذاتها كُلاً لا يتجزأ، وبعضهم يشطح في المغالاة إلى حد القول بأن كل وزير فيها هو بمثابة رئيس جمهورية! كما يتشارك الوزراء جميعا في كل صغيرة وكبيرة في مسؤولياتها وصلاحياتها وبالتالي، من المستغرب أن يقف كثير من هؤلاء الوزراء بعيدا عن مسؤولياتهم التي ارتأوها لأنفسهم (بما يخالف الوضع الدستوري طبعا) تاركين السهام العادية والسّامة تنهار على الوزيرين المذكورين، وسط سعادتهم بهذا الوضع سعادة مصطنعة وغير عادلة وغير موفقة.

التظاهر الحاصل (وآخر نتاجاته مظاهرة الأمس الأربعاء) ناتج في الواقع عن غضب شعبي متراكم، وصل إلى حدوده القصوى بما دفعه نحو التفجّر والنزول إلى الشارع بعد أن «طلعت رائحة» الزبالة بشكل غير معقول وغير مقبول، فضلا عن رائحة الكهرباء العليلة والمتقطعة وروائح الفساد المستشري في كل مكان وصولا إلى المطار والمرفأ ودوائر الدولة التي تنتج قوالب من الجبنة الدسمة القابلة للاقتسام والإلتهام من ذوي الأفواه الكبيرة، وما أسهم في تكبير حجم الأزمة الناتجة عن وضعية النفايات، تلك الأقوال والمعلومات والإشاعات والوقائع الملموسة التي رافقت الأزمة، بدءا من التأخر في معالجتها وإيجاد الحلول لها، مرورا بتأجيل موعد إعلان نتائج المناقصات بشأنها، وصولا إلى تلك النتائج غير الواقعية وغير المقنعة التي رست عليها، الأمر الذي دفع بالحكومة إلى اتخاذ قرار بإلغائها ومحاولة إلغاء حصيلة الإتهامات والشائعات التي نبتت منها، وبالتالي، لا يمكن ان ننفي وأن نلغي قناعة لدى أوساط واسعة من الناس باتت تعتقد بأن الأزمة الحقيقية، ليست أزمة وجود أطنان من الزبالة منثورة في كل الأمكنة والمواقع، بل هي أصلا، أزمة قائمة ما بين بعض الفئات والجهات على تقاسم المغانم الناتجة عن التلزيمات التي لم تكتمل فرحة البعض بوصولها مؤخرا إلى بر الأمان والتلزيم، من الواضح أيضا أن هذه القناعة قد شُغِلت بعناية من أصحاب المصالح بإطلاقها إلى حيز الوجود كوسيلة من وسائل الإحتراب السياسي وتسجيل نقاط لدى هذا الفريق أو ذاك، في إطار المبارزات السياسية القائمة، ولكن ذلك لا يلغي حجم الغضب الشعبي الكبير والشامل، المستغل من قبل الكثيرين، علما بأن الأوضاع العامة قد ساءت في هذا البلد البائس إلى حد بات من الصعب فيه أن تتهم جهةٌ جهةً أخرى بالفساد واقتسام قوالب الجبنة، دون أن يطاول الجهات بغالبيتها العظمى، رُشاشات الإتهام ورشقاته، ومحاولات كل جهة إثباته بالوقائع والأرقام، حتى لامتلأت الأجواء بسيل من التهم و فيض من التهم المقابلة بما حوّل جميع الفئات والجهات السياسية إلى قفص الإتهام، وأصبح من الصعب على المواطن العادي الفصل في ما بين الصحيح منها والمختلق. ما يهم المواطنين من كل ذلك، تلك الأجواء العامة التي باتت تسود وتقود التيارات الشعبية موحية ومعلنة بأن الفساد قائم ومتجذر في عموم البلاد، وأنه لم يعد يخشى عليها من إمكانية التقسيم الجغرافي المناطقي بقدر ما بات يخشى عليها من عمليات تقاسم وسرقة الثروات الوطنية بكل أشكالها وألوانها.

ومع كل التحفظات لجهة عمليات الإستغلال المفضوح التي تتولاها جهات سياسية وحزبية مكشوفة ومعروفة، تذهب في مطالبها إلى حدود الدفع باتجاه ثورة شاملة لا تبقي ولا تذر، وتقلب الأوضاع بصورة عشوائية بدون مراعاة للوقائع والحقائق الموضوعية التي بني عليها أساس هذا الوطن الذي استجمعت فئاته وجهاته وتعدّداته الفئوية والطائفية في هذا الإطار الجغرافي الصغير.

ومع كل التحفظات لجهة أن جميع المطالب التي استقرت عليها الفئات المتظاهرة والمحتجة ببنودها المتواضعة، و مع كل التحفظات لجهة المطالب الثورجية التي يطلقها البعض دونما تحسب أو تبصر أو وعي لحقيقة وحجم المخاطر الكبرى التي تواجهها البلاد، ومع التأكيد على أن أي حل صغير كان أم كبير، لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال البند التقويمي الأول الذي لا بد من الشروع به، ألا وهو النزول الفوري لانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة الرأس إلى ذلك الجسم الرئاسي الذي يشكو من طول الإستمرار في قطع رأسه، وبعد ذلك كله، سيكون على الرئيس، أن يتذكر هو وسواه أن نظافة الكف والوجدان والضمير الوطني، تسهم في خلق القيادات العظيمة، وخلق الأوطان العظيمة.