تروي الوثائق السرّية للحرب العالمية الثانية والتي كُشف عنها منذ مدة أنّ في نيسان 1945، وتحديداً قبل نحو أسبوعين من انتحار أدولف هتلر واستسلام المانيا، أرسلت قيادة الحلفاء الى الزعيم الألماني من خلال وسيط أوروبي طلباً «غريباً» يحضّه على الصمود أكثر في وجه الجيش الأحمر الذي كان يتقدّم بسرعة أكبر من جيوش الحلفاء ما يهدّد بسيطرته على العاصمة الألمانية كلّها. وتضيف الوثائق أنّ هتلر الذي كان بدأ يجهّز نفسه والمجموعة الضيّقة المحيطة به لقرار انتحاره هزّ رأسه هازِئاً وهو يقول: «الآن استفاق هؤلاء الأغبياء لخطر الشيوعية!».
ما حصل يومها كان بمثابة السعي المستميت للحلفاء لتحسين مواقعهم في مرحلة ما بعد المانيا النازية او بتعبير أدقّ في مرحلة النزاع الذي سيتصاعد بين دول العالم الحرّ ودول الكتلة الشيوعية.
في الشرق الاوسط لا تبدو الصورة الحالية بعيدة في بعض جوانبها عما حدث مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
ذلك أنّ القرار بالقضاء على «داعش» كان قد اتُخذ جدّياً وفعلياً هذه المرة على مستوى العواصم الكبرى نهاية الصيف الماضي، لتنطلق بعدها عاصفة «السوخوي» الروسية وفق أجندة عسكرية وسياسية.
صحيح أنّ موسكو التي حدّدت برنامجها العسكري بأربعة أشهر باشرت تولّي المهمة التي تبدو واشنطن عاجزة عن القيام بها لألف سبب وسبب، خصوصاً لناحية الإمساك بالأرض وتولّي قيادة الفريق الآخر، لكنّ المتضرّرين من الدور الروسي كانوا كثراً بعدما أصاب الحضور الروسي مصالحهم مباشرة. وفي طليعة هؤلاء تأتي تركيا التي سعت طويلاً لتعزيز دورها الإقليمي من خلال سوريا وعبر إقامة منطقة الحظر الجوّي. وموسكو المدرِكة لذلك دشّنت مرحلتها العسكرية برسائل حربية موجَّهة لأنقرة.
واللافت أنّ من بين المتضرّرين كانت فرنسا حيث بدا أنّ روسيا على قاب قوسين من وراثة الدور الفرنسي التاريخي في سوريا ولبنان.
قيل يومها إنّ المصالح الفرنسية تفرض على باريس اغتنامَ أيّ فرصة لإيجاد حضور عسكري لها في المنطقة.
وصحيح أنّ الهجمات الارهابية في باريس توفّر فرصة ممتازة لذلك، وهو ما أدّى الى تعزيز الحضور الجوّي لفرنسا وإرسال حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها، إلّا أنّ خطورة الوضع الأمني الداخلي وفق ما كشفته العمليات الارهابية يلزم فرنسا بالانشغال في تحصين ساحتها الداخلية كأولوية مطلقة والمباشرة في تنظيف الثغرات الامنية والتي تنبئ بمزيد من الاعتداءات الإرهابية مستقبَلاً.
ولم تكن فرنسا تعوّل فقط على دور عسكري لها، بل على إبقاء المبادرة السياسية في يدها، خصوصاً في لبنان الذي يشكل ساحة نفوذ لا بديل منها بالنسبة اليها.
وتكشف مصادر ديبلوماسية مطلعة أنّ الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند كان قد أوكل لبلاده ملف الانتخابات الرئاسية اللبنانية من هذه الزاوية بالذات وهو تولّى حركة تواصل مع طهران و«حزب الله» بهذا الخصوص، واضعاً واشنطن في اجواء حركته، وهو لذلك كان قد حضّر جيداً للقاءين مهمين لم يحصلا بسبب ما حصل في باريس.
الاول كان من المفترض أن يحصل مع الرئيس الإيراني حسن روحاني في باريس والثاني مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز على هامش قمة دول العشرين في تركيا. وتردّد أنّ هولاند الذي كان قد وضع البند اللبناني في المرتبة الاولى لهذه المحادثات لو قدّر لها أن تحصل، كان مهّد لذلك أيضاً مع الفاتيكان والذي كان سيستقبل الرئيس الإيراني في زيارة تاريخية.
والرئيس الفرنسي المستعجل طرح الملفّ اللبناني إنما لا يفعل ذلك فقط انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على المصالح الفرنسية في الشرق الاوسط، بل لأنه يدرك أنّ الديبلوماسية الروسية جهّزت ملفاً كاملاً عن لبنان جسّت نبض موسكو وطهران حياله وهي ستضعه على الطاولة قريباً لدى انطلاق مسار التسوية السورية.
وإذا ما تحقّقت المواقف المعلنة لوزراء الخارجية بعد لقاء فيينا الأخير بأنّ اجتماعات النظام السوري مع وفد المعارضة الجاري تشكيله قبل نهاية السنة الحالية، فهذا معناه أنّ احتمالات وضع الملف اللبناني على الطاولة مطلع السنة المقبلة تصبح مرتفعة جداً. ويأتي كلام وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن احتمال حصول وقف لاطلاق النار في سوريا خلال الاسابيع المقبلة في إطار تعزيز هذه التوقعات.
في كلّ الحالات فإنّ موسكو التي استقبلت أمس وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل وجّهت سلسلة دعوات الى شخصيات لبنانية لزيارتها خلال الاسابيع المقبلة، ولكن من دون تحديد التاريخ، ربما في انتظار حصول التقدّم المطلوب على الساحة السورية. والدعوة الروسية الأهم هي لرئيس مجلس النواب نبيه برّي مع الاشارة الى علم باريس بالتشاور السريع الذي حصل بين موسكو وواشنطن حول لبنان.
صحيح أنْ لا وجود للبنان في برنامج الاهتمامات الحالي للدول الكبرى، لكنّ الامر لن يتأخّر وهو منوط بالتطوّرات السورية. والواضح أنّ تركيا لم تعد بعيدة من الانضمام الى حملة إنهاء «داعش»، خصوصاً بعدما وافقت على تعاون عسكري مع واشنطن يشمل إغلاق الحدود بهدف خنق التنظيم الارهابي.
وربما كان لافتاً ومعبراً في آن معاً قصف الطائرات الحربية للمرة الاولى طوابير الصهاريج التي كانت متوقفة لشراء النفط من «داعش»، ما يدلّ على جدّية خطوة تجفيف مداخيل التنظيم.
العارفون يهمسون بأنّ برنامجاً كاملاً تمّ إعداده للبنان من خلال وصول رئيس قادر على التعاون مع كلّ الأفرقاء من أجل فتح ورشة اصلاح دستورية خلال ولايته، أيْ رئيس لديه خبرة سياسية واسعة و«خبير» في التركيبة اللبنانية وقادر على تدوير الزوايا الحادة التي تتميّز بها الحياة السياسية اللبنانية.
والاهم أنّ واشنطن باتت تميل، لكي لا نقول تسعى، لإنتاج طبقة سياسية جديدة في لبنان تتلاءم مع المرحلة المقبلة وتؤدّي الى مصالحة اللبنانيين وتعيد ثقتهم بالطبقة الحاكمة، وهذا قد يشكّل إجابة واضحة على «الحرب» المفتوحة على الطبقة السياسية الحالية من المجتمع المدني والأوساط الإعلامية والشعبية.
عام 1992 هناك مَن شجع المسيحيين على خوض تجربة المقاطعة للانتخابات النيابية. هناك مَن جرّهم الى هذا الانتحار السياسي وهم ذهبوا اليه بحماسة بلا تخطيط، فكانت النتيجة خروجهم من مؤسسات الدولة وحلول طبقة سياسية جديدة تتلاءم مع مرحلة الوصاية السورية.
شيءٌ من هذا القبيل يُحضَّر له، طبقة سياسية جديدة و»نظيفة» تتلاءم والنظام الإقليمي الجديد الذي سيولد على أنقاض مجازر «داعش» والاتفاق الأميركي- الإيراني والذي أعطى طهران موقعاً متقدّماً في المنطقة ولكنه ليس الموقع الأوحد.