Site icon IMLebanon

“بابا… ما بدّك تلاقي شغل جديد؟”

 

عمال النظافة… مهنة سامية في مجتـمع لا يرحم

 

لا داعي لنتخيّل ما كان ليحصل لو أضرب عمال النظافة في منطقة ما ليوم أو اثنين أو ثلاثة. فما حصل من تكدّس للنفايات بين البيوت وفي الطرقات جراء توقّفهم عن العمل في بيروت وضواحيها قبل أيام وقبلها في الهرمل- واللائحة قبل هذه وتلك الواقعة تطول- بسبب عدم التجاوب مع مطالبهم المعيشية، خير دليل على ذلك. جنود لا يُستَبدلون في معركة لا تتوقّف. المهنة راقية والرسالة إنسانية، أمّا المجتمع فيسوده الكثير من التشوهات على مستويات مختلفة في أنماط التفكير، بدءاً من نمط التمييز مروراً بالوصمة الاجتماعية تجاه الآخرين وصولاً إلى الحكم عليهم وربط نجاحهم بصُوَر معيّنة. بهذه الكلمات يختصر علم النفس المعاناة الاجتماعية لعمال النظافة. فكيف يختصرون هم لنا معاناتهم؟

 

لماذا يحتقروننا؟

 

سعد (اسم مستعار)، ابن الـ37 عاماً، حَلِم بإكمال دراسته وتسلُّم إحدى الوظائف الحكومية في بلده الأم سوريا. عاش حياة ميسورة نسبياً في كنف أسرة تملك بيتاً وأراضي هناك. لكن الحرب جاءت لتقضي على ممتلكات العائلة وعلى حلمه في آن. لم تترك له الحياة خياراً غير التوجه إلى لبنان في العام 2014 بحثاً عن عمل يأكل منه «خبزه بعرق جبينه»، كما يقول. وبما أن «الشغل مش عيب» لم يجد أمامه سوى وظيفة عامل نظافة متاحة في إحدى المناطق البقاعية. زوجته لم تتقبّل الفكرة في البداية وعارضته مراراً وتكراراً، لكنها ما لبثت أن رضخت للأمر الواقع حين راح العوز يزحف إليهم رويداً رويداً. لماذا الرفض؟ يجيب سعد: «لأننا نخاف من نظرة المجتمع ومن أحكامه القاسية… هناك من يحتقرنا رغم أن ثمة من يحترمنا أيضاً». من أصعب المواقف التي يتعرض لها هي تلك التي تصيبه كخنجر في الصميم لدى سماعه عَرَضاً تمتمات على شاكلة: «شاب طول وعرض الحيط وعم يشتغل زبّال». عندها أكثر ما يتمناه هو أن تنشق الأرض وتبتلعه.

 

حكم المجتمع أشد مضاضة من الأمراض الصحية. لكن الأخيرة لا ترحم هي الأخرى. فهو يعاني من مشاكل رئوية ناتجة عن تنشّق الغازات المنبعثة من النفايات وألم دائم في الرأس: «أحياناً ما إلي نفس آكل مجرّد ما أتذكر رائحة بقايا الأكل الكريهة الصادرة من المستوعبات». هل كنت لتَقبَل بالمهنة نفسها في بلدك؟ الإجابة كانت سريعة وبديهية: «يصعب عليّ ذلك، فأنا أنتمي إلى عائلة كانت لها مكانتها الاجتماعية هناك… إن لم يرحمني المجتمع اللبناني، فما بالك بمجتمعي الأم؟».

 

معاناة سعد النفسية لا تختلف عن معاناة كثيرين غيره من عمال النظافة. فنظرة وسلوك المجتمع تجاههم عاملان كافيان لتدمير الثقة بالنفس وحب الذات. لماذا؟

 

إسأل عن تشوّهات المجتمع الفكرية

 

الأخصائية النفسية، الدكتورة كارول سعادة، تشرح لـ»نداء الوطن» أن عمال النظافة هم في الواقع أناس ترعرعوا في مجتمع ويتعرّضون بحكم الواقع إلى السلوك الناتج عن الأنماط المختلفة التي تتعاطى فيها بعض فئات هذا المجتمع مع الآخرين. فالتشوّهات الفكرية التي يعاني منها بعض الأفراد تنعكس سلباً على العامل، إن من خلال تزعزع ثقته بنفسه، أو حتى حبه وتقديره لذاته. وتضيف: «الأنماط التي تحدّد نظرة المجتمع لبعض المهن يتوارثها هذا الأخير بطريقة غير مباشرة. من هنا ضرورة تنمية الوعي والإدراك لدى الأشخاص لتغيير النظرة تلك». إذ إن الأذى الناتج عن تلك التشوّهات يطال كلا الطرفين، فهي تعبّر عن تصلّب فكري وقبح في طريقة التفكير لدى من يعاملون الآخرين بنزعة فوقية فيها الكثير من التمييز واللامساواة.

 

من جهة أخرى، ترى سعادة أن جزءاً كبيراً من تقدير الإنسان لنفسه وتقييمه لذاته إنما يرتبط بنظرة الآخر إليه وحكمه عليه، فكيف إذا كانت النظرة تتضمن نوعاً من العنف المعنوي تجاه الآخرين؟ وتنهي قائلة: «لا شك أن هناك أشخاصاً متصالحين مع أنفسهم في مهنتهم ولديهم حكمة وسلام داخلي كافيان لحسن تقدير الذات». هنا يختلف التأثير باختلاف الشخصية بين تلك التي تتأثر بنظرة الآخرين إليها، فنراها على سبيل المثال ترفض القيام بنفس العمل داخل بلدها أو محيطها، وأخرى أكثر تماسكاً وتقديراً للذات، ما يولّد لديها قناعة بما تقوم به مقدّرة قيمة المهنة التي تزاولها.

 

شكراً للحياة رغم كل شيء

 

نعود إلى أحد العمال الذين قابلناهم. عُمر، ابن الـ56 عاماً وقد اعترى الشيب رأسه، يبدأ يومه عند الرابعة والنصف فجراً ملتحقاً بزملائه، حيث أفنى زهرة عمره متحدياً الجراثيم والفطريات والغازات المتفشية حول حاويات القمامة وداخلها. فهو إذ يقوم بكنس الشوارع، يحاول أن يرسم في مخيلته شكل من سوّلت له نفسه رمي النفايات في غير الأماكن المخصّصة لها. يصمت لبرهة ثم يتابع: «الروائح أخف وطأة من الأخطار الصحية والإهانات النفسية التي نتعرّض لها. فالجراثيم والميكروبات عدو يتربّص بنا في كل لحظة».

 

وإذ تغرورق عيناه بالدموع، يتكلّم عُمر بنبرة ملؤها الثقة. فهو راض بقدره، مع بعض اللوم العابر، شاكراً الحياة على جُلّ ما قدّمته له. نظرة المجتمع إليه، وهو الذي يعمل منذ 20 سنة في هذا المجال بُعيد قدومه إلى لبنان من سوريا، جعلته يدرك أن قيمة المهنة أسمى من حكم الآخرين عليه: «أسمع الإهانة في أذني، لكني أدير ظهري وأكمل عملي مدركاً تماماً أنه، لولا هذه المهنة، لغرقنا جميعاً بالأمراض والأوبئة حتى أذننا. فلو عرف الناس مدى معاناتنا من أجل تأمين لقمة العيش لما وجدوا إلى إهانتنا سبيلاً».

 

الأهم بالنسبة لعُمر يبقى الاهتمام بوضع العمال الصحي. فكثيرون لا يدركون حجم مخاطر عملهم والأمراض التي غالباً ما تتسلّل إلى أجساد مزاوليه. صحيح أنهم يلبسون القفازات لكنها لا تقيهم خطر عدوى الأمراض المنقولة من النفايات والغازات المنبعثة منها. والحال أن ثمة حاجة إلى مزيد من المستلزمات الوقائية ومنتجات التطهير والتعقيم حفاظاً على حياة العامل كما على حياة عائلته وأولاده.

 

العناية الطبية غائبة

 

في حديث مع «نداء الوطن»، يُفصّل الأخصائي في الطب الداخلي وأمراض الدماغ والأعصاب، الدكتور إميل علم، المخاطر والأمراض التي تهدّد عمال النظافة في مهنتهم. بالنسبة له، يُقسَّم الوضع الصحي والطبي في هذه الحالة إلى قسمين: الأول يتمحور حول الأمراض التي يُسبّبها تكدّس النفايات في الشوارع والانبعاثات والغازات التي تصدر عنها، الأمر الذي ينتج عنه الكثير من الأعراض، كالالتهابات الرئوية، مشاكل الجهاز التنفسي، الحساسية المفرطة، كما اعتلال الجهاز الهضمي والأمراض السرطانية وغيرها. أما القسم الثاني فيتلخّص بتبعات طبيعة الحياة التي يعيشها العمال: أولاً لناحية سوء التغذية، وذلك بحكم أوضاعهم المعيشية المحدودة لا سيما في ظلّ الأزمة الحالية التي يعاني منها البلد؛ وثانياً نتيجة ظروف السكن غير الصحية بحيث يتشارك أشخاص عدة مساحة سكنية ضيّقة توفيراً لمصاريف الإيجار والمستلزمات الأخرى، ما ينعكس سلباً على أوضاعهم الصحية وتراجع جهاز المناعة لديهم. أضف إلى ذلك، عدم تمتّعهم بأي تأمين صحي مع ما يعنيه ذلك من شبه غياب للرعاية الطبية.

 

العمل في ظروف مناخية قاسية وما ينتج عنها من نزلات صدرية والتهاب الشعب الهوائية لا يقل أثراً سلبياً عليهم أيضاً. هذا دون أن ننسى حالات الغثيان والدوار الناتجة عن الروائح والغازات التي يتنشقونها. وفي حين يلفت علم إلى أن «العناية والوقاية غير متوفرتين في الأغلب، إذ نرى العمال يأكلون بأيديهم أثناء العمل دون أي تعقيم»، يناشد الجهات المعنية معالجة ملف النفايات بطريقة حازمة وجازمة. ويختم مطالباً إيلاء عمال النظافة، اللبنانيين والأجانب منهم على السواء، المزيد من العناية عبر تأمين شروط ملائمة لا سيما في ما خص السكن والطبابة، كذلك مراعاة ظروفهم لأنهم أكثر عرضة من غيرهم لأمراض مزمنة ويحتاجون إلى متابعة دائمة.

 

للظروف أحكام

 

لعمال النظافة اللبنانيين حكايتهم، الأشد حساسية، أيضاً. أيمن (اسم مستعار) البالغ من العمر 45 سنة، انتقل من العمل في ورشة للسيارات ليلتحق بفريق جمع النفايات التابع لإحدى البلديات بعد أن أصبح المردود لا يكفيه لإعالة العائلة: «كثيرون من حولي لم يتقبّلوا فكرة تحوّلي إلى عامل نظافة. فالمهنة موصومة في مجتمعنا للأسف». لكن بما أنه مسؤول عن زوجة وطفل، لم يتردّد أيمن في اتخاذ القرار. فعند الحاجة على الإنسان أن يرمي موضوع الحرج خلف ظهره، كما يقول…»بلدنا وبدنا نخدمو والحمدلله عم بشتغل بعرق جبيني».

 

حياة أيمن الاجتماعية تأثّرت بشكل مباشر كما لنا أن نتوقّع. ففي وقت سلبته الظروف حلم التحصيل العلمي، أبعدت المهنة عنه عدداً من الرفاق والأصدقاء. حتى زوجته وابنه لم يتأقلما مع الواقع بسهولة. فها هو الابن لا يزال يهمس كل مساء في أذن والده: «بابا، ما بدّك تلاقي شغل جديد؟».

 

نسأل أيمن أخيراً إن كانت فكرة مغادرة الوطن بحثاً عن مستقبل مختلف تراوده، فأجاب: «مهما قست عليّ الحياة، سأبقى هنا وسأعيش حياة طبيعية. فحين أبدّل ثياب العمل وأرتدي ملابسي العادية، أعود إنساناً طبيعياً كأي شخص آخر في المجتمع».

 

ونحن نقول لسعد وعُمر وأيمن، كما لجميع زملائهم، إن الملابس لا تصنع الرجال. فألف تحية تقدير وشكر لكم.