مع انهيار دول ومجتمعات في مشرق العالم العربي ومغربه، تنحسر القضية الفلسطينية إلى الهامش ويتراجع الاهتمام بها إقليمياً ودولياً. لكنّ الفلسطينيين أثبتوا براعة في تذكير أنفسهم والعالم بقضيتهم وبحقهم في دولة مستقلة تشكّل مرجعاً للمقيمين كما للمنتشرين في العالم. وأحدث التذكير إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية عن الطعام طلباً لتحسين أوضاعهم بما يوافق القوانين العالمية التي تحكم التعامل بين السجين والسجّان. هذا الطلب المحق لا ينفي أن هذا الإضراب حلقة من حلقات رسالة يبعث بها الفلسطينيون إلى القريب والبعيد بأن لهم حقاً وطنياً مهدوراً وبأنهم يصرّون على نيله مهما انشغل عنه العالم.
وباتفاق الفلسطينيين مع الاحتلال على سلطة وطنية تنظّم أحوالهم في أراضي 1967، استطاعوا انتزاع شيء من الاستقلال عن إسرائيل وكثير من الاستقلال عن العرب الذين كانوا يساعدون منظماتهم بالقدر الذي يطلبون ولاءها فتتوزّع بين هذا القطب العربي أو ذاك وتستورد الحروب العربية- العربية إلى البيت الفلسطيني. وها إن فلسطين في مشهدها الواضح تواجه وضوحاً إسرائيلياً لدولة صنعها الغرب والصهيونية، لكنها تملك قدراً كبيراً من الاستقلال وتجنح إلى عصبية دينية تبعث الخجل في نفوس يهود العالم المستنيرين.
ليس لسورية هذا الوضوح إنما يغمرها الغموض نظاماً ومعارضات. ولا يستطيع السوري رؤية خيط واضح يتمسك به ليصل إلى وطن مستقر ودولة لجميع مواطنيها. لقد رحل من رحل إلى الجوار أو إلى العالم القريب والبعيد، أما الباقون فيعتصمون بالصمت ليبعدوا عنهم أذى قوى الأمر الواقع من ميليشيات داخلية وخارجية، ومن نظام يزداد تشدُّداً بدعوى الحفاظ على الدولة ومواجهة الإرهاب. ولا تجرؤ المعارضات كما لا يجرؤ النظام على ادعاء الاستقلال، ففي سورية مشاعر حادة دينية وطائفية وقومية وقبلية تطفو على السطح وتحتل المشهد، ونراها تتعرض لفرز وإعادة فرز بالقوة والمال والارتهان، فلا يستطيع المواطن رؤيتها بوضوح كما لا يأمن شرها من حيث تدّعي النطق باسمه والحرب من أجله.
وطالما أُخذ على المعارضات عجزها عن إدارة مدنية للمواطنين الذين تحكمهم، وكانت الحجة الدائمة أن النظام يمنع نشوء هذه الإدارة، وقد يقصف ويدمّر منشآت مدنية في حين يغمض العين عن المؤسسات العسكرية فكأنه يدفع الأمور إلى الحرب الخالصة. وليس من مسحة مدنية في مناطق المعارضات «المحررة» إلاّ تلك المؤسسات الأيديولوجية والدينية التي تنمي المحافظة الماضوية العابرة للأوطان، فيتساوى فيها السوري مع المصري مع الليبي مع التونسي مع الشيشاني في جهادهم على كوكب لا على وطن اسمه سورية.
وأحدث الهدايا التي تلقاها الشعب السوري من مؤتمر أستانة هي صيغة مناطق «تخفيف التصعيد» التي يعبّر عنها الأتراك بصيغة «مناطق اللااشتباك». وهذا تحايل روسي على صيغة «وقف النار» يحظى بقبول النظام وإيران ويسمح لهما وللمسلحين الأكراد بمواصلة الحرب على «النصرة»/ «القاعدة» وعلى «داعش». وأعطي «تخفيف التصعيد» مهلة ستة أشهر لإثبات فاعليته التي بدأت بتبريد الجبهات. وسيساعد هذا «التخفيف» في بث الدفء في العلاقات الروسية- الأميركية تمهيداً لصفقة تتضمن سورية وأوكرانيا. مع الأمل بأن يتحوّل اتفاق أستانة إلى تمهيد لاتفاق سياسي ملموس في جنيف يتجاوز الاستعراض الإعلامي المعهود للنظام والمعارضات.
لكنّ روسيا التي أرضت النظام وإيران بابتكار الصيغ اللفظية لا تستطيع إرضاء تركيا المتحكّمة بمعظم المعارضات، خصوصاً في الشمال، والتي لن تكتفي بتطمينات موسكو إنما تطلب، وبالدرجة الأولى، تطمينات من حليفها الأطلسي الأميركي، الذي تأخذ عليه تسليحه الأكراد وإساءته بالتالي إلى الأمن القومي التركي.
لا النظام في سورية مستقل ولا المعارضات، وفي الارتهانات السورية المعقّدة ينتشر الغموض وتكثر التوقُّعات بحروب مفاجئة متوسطة أو كبيرة، حروب الكبار على حساب السوريين. أنقول: هنيئاً للفلسطينيين بوضوحهم على رغم إضراب الأسرى عن الطعام وقسوة اليمين الإسرائيلي؟