أحدهما يتسبّب بـ16% انبعاثات أكثر من الآخر… ولبنان لا يشذّ عن القاعدة
ليس على المرء سوى ذكر الرجل والمرأة في جملة مفيدة واحدة حتى تكرّ سبحة المقارنات. من منهما الأكثر ذكاء؛ الأقل إبداعاً؛ الأكثر كذباً؛ الأقل ثرثرة؛ الأكثر حساسية؛ الأقل إنتاجية. ولائحة الـ»أكثر – أقل» تطول وتطول. هي جدلية قائمة ما حيينا كجنس بشري. وقد تكون ضرورية في بعض جوانبها بما هي تحثّ كلّاً من «المُعَسكرَين» على «تَنافُس» بنّاء. لكن إحدى أغرب تلك المقارنات تتعلّق بأحد أشدّ الأخطار قضّاً لمضاجعنا جميعاً – ذكوراً وإناثاً. من الأقلّ مساهمة بيننا في تغيّر المناخ والأكثر تضرّراً منه، يا ترى؟
مناسبة التطرّق للمقارنة هذه هي مقالة نُشرت مؤخّراً على موقع المصرف الفرنسي المركزي الإلكتروني. وذهبت المقالة إلى أنه بالرغم من كون نمط حياة النساء أفضل للبيئة من نظيره عند الرجال، غير أن آثار التغيّر المناخي تطال أكثر من الرجال، وذلك بحسب دراسة للأمم المتحدة. والحال أن التفاوت في التصرّف بين الجنسين يُعتبر مصدراً لانبعاثات غازات الدفيئة مع كل ما يترتّب عنه من آثار ناجمة عن التغيّر المناخي.
أكثر مَيلاً… للإنبعاثات
نتعمّق أكثر في الدراسة. فبحسب عالمة الاقتصاد الفرنسية، أوريان فيغنر، يعتمد الرجال على نمط وأساليب عيش تزيد من انبعاثات غازات الدفيئة (أو غازات الاحتباس الحراري، ولنا عودة إليها)، على عكس المرأة. وتضيف السيدة فيغنر: “رغم أن الانطباع الأول يوحي بأن التغيّر المناخي، والذي يُعدّ انبعاث غازات الدفيئة سبباً أساسياً فيه، يؤثّر على جميع السكان بشكل متساوٍ، إلّا أن تصرّفات الرجال الاستهلاكية تشكّل مصدراً لانبعاثات هذه الغازات أكثر بـ16% في المتوسط من الكمية الناجمة عن تصرفات النساء”. أسباب هذا التفاوت تعود إلى مَيل الرجال لاستهلاك الكثير من السِلَع والخدمات المسبّبة للانبعاثات، كالوقود على سبيل المثال. في حين أن معظم السِلَع التي تستهلكها النساء ترتبط بالرعاية والصحة والأثاث والملابس، وهي جميعها تتسبّب بكميات محدودة من الانبعاثات. وإليكم المزيد أيها الرجال الأعزّاء. فمَيلكم – أو مَيل كثيرين بينكم – إلى اختيار أماكن بعيدة لتمضية الإجازات أو السفر إلى خارج البلاد (لِمَن استطاع، بالطبع، إن كنّا نتكلّم عن لبنان)، إنما يحتّم زيادة في نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. أو هذا أقلّه ما تشير إليه الدراسة. كما أن للنظام الغذائي حصّته. فاعتماد نظام يحتوي على كميات محدودة من اللحوم يقلّل من نسبة انبعاثات غازات الدفيئة. وقد تبيّن من خلال استطلاع أجري في فرنسا في العام 2021، مثلاً، أن ثلثي النباتيّين هم من النساء. أهو رابط سببيّ أم مجرّد صدفة؟
ماذا عنّا؟
نحمل الدراسة إلى الداخل اللبناني. فإلى أي حدّ هي تنطبق علينا، وهل ان اللبنانيات فعلاً أقلّ إضراراً بالمناخ من اللبنانيين؟ وهل هنّ حقاً أكثر تأثّراً بالتغيّر المناخي؟ نسأل مديرة مشروع تغيّر المناخ في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لدى وزارة البيئة، ليا قاعي، فتجيبنا بالمباشر. الرجل في لبنان مسؤول أكثر من المرأة عن الانبعاثات الناجمة عن استخدام وسائل النقل المختلفة، كونه يلجأ إليها في تنقلّاته من وإلى مكان العمل. وهو ما يؤدّي إلى استهلاك كميات أكبر من المحروقات، علماً أن نسبة اليد العاملة من الرجال في لبنان تفوق نسبة النساء. والسفر، هو الآخر، عامل إضافي كون الرجال يضطرون إليه – من حيث المبدأ وكأمر واقع – أكثر من النساء بحكم متابعة أعمالهم في الخارج. لكن، في السياق عينه، لفتت قاعي إلى أن الحلّ لخفض انبعاثات غازات الدفيئة هو بِيَد المرأة رغم أن الرجل هو من يتسبّب بها بالدرجة الأولى. فكيف ذلك؟ “المرأة هي المسؤولة عادة عن تنظيم الأمور المنزلية. فهي من تقوم باختيار وشراء الغسّالة والبرّاد والآلات الكهربائية الأخرى. وحسن الاختيار هنا يساعد على التوفير في استهلاك الطاقة الكهربائية ما يساهم بدوره في تخفيف الانبعاثات”، كما تقول. كما أن عملية فرز النفايات من المصدر تقع بمعظمها على عاتق المرأة إذ هي من تضطلع بها عادة، من جهة، وهي من تثقّف وتدرّب الأولاد عليها، من جهة أخرى. وللتذكير، فعملية فرز النفايات في المنزل (أحد مصادرها الأساسية) تساهم بشكل كبير في التخفيف من انبعاثات غازات الدفيئة في المكبّات – العشوائية منها والمنظّمة.
أثمان المسؤولية
النوع الاجتماعي، أو الجندر، معيار هام لناحية شرح التفاوت في التسبّب بالانبعاثات، بحسب الدراسة إذاً. أما مستوى الدخل، فيلعب أيضاً دوراً في هذا المضمار، شأنه في ذلك شأن مكان الإقامة أكان في الريف أم في المدينة، كما تلاحظ السيدة فيغنر. “لا شك أن المرأة أكثر عرضة لتأثيرات التغيّر المناخي التي تنعكس – وستنعكس – بالمقام الأول على شحّ المياه كما على الزراعة. ونتكلّم هنا عن المرأة الريفية بصورة خاصة، إذ هي من تقصد الينابيع لتعبئة المياه أو المحال التجارية لشراء العبوات. صحيح أننا لسنا في أفريقيا لكن هذا ما يحصل غالباً في لبنان وتحديداً في المناطق الريفية”، كما تعلّل قاعي. وتتابع متناولة البعد الزراعي، حيث أن أكثرية اليد العاملة في هذا القطاع، لا سيّما في المناطق الداخلية والبقاع، هي من النساء. وهكذا فإن ما يتربّص بالري والمياه والمحاصيل الزراعية من آثار سلبية سيضع المرأة في المواجهة المباشرة. زِد على ذلك ما تعانيه من ارتفاع درجات الحرارة وانخفاضها من ضمن تأدية مسؤولياتها في النشاطات الزراعية.
أضرار متمادية
المقارنة لافتة. لكن هذا لا يعني أن الرجل بمنأى عن التداعيات. لنعرّج على ذلك الخطر المناخي الداهم – ومصدره إلى حدّ بعيد الأنشطة البشرية – الذي لا ولن يميّز بيننا. فالغلاف الجوي للأرض ذات وظيفتين أساسيتين: الأولى تمرير أشعة الشمس المفيدة إلى الأرض وصدّ الإشعاعات المؤذية؛ أما الثانية فالحفاظ على متوسّط درجة حرارة الأرض. مدير عام مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، الدكتور ميشال افرام، يقول لـ”نداء الوطن”: “يمنع الاحتباس الحراري خروج الحرارة بسهولة إلى خارج الغلاف الجوي، حيث تستمر بالانعكاس إلى الداخل رافعة حرارة الكرة الأرضية بسبب الأشعة المنبثقة منها”. وأبرز الانعكاسات تتمظهر على شكل ارتفاع في درجة حرارة مياه المحيطين الأطلسي والهادئ. ومع بلوغ الاحترار حتى الآن 1.2 درجة مئوية، ها هي الكوارث المناخية تتكاثر حول العالم من موجات حرّ وجفاف وتصحّر وفيضانات وحرائق غابات. على رأس قائمة الغازات التي تساهم في الاحتباس الحراري يأتي ثاني أكسيد الكربون، الناتج عن حرق الفحم الحجري والوقود الأحفوري. وقد ازدادت انبعاثاته أكثر من ألف مرة منذ العام 1850. ثم يأتي غاز الميثان الناجم عن بعض المصانع كما عن حيوانات مثل الأبقار كمنتج ثانوي من خلال عملية الهضم لديها. ويشرح افرام: “يفوق مفعول غاز الميثان مفعول غاز ثاني أكسيد الكربون بواقع 500 ضعف، وتكمن خطورته بقدرته على الاشتعال. وهناك الغازات التي تتصاعد من جراء تخمير النفايات خاصة غاز كبريتيد الهيدروجين المضرّ كونه يتسبّب بتساقط أمطار أسيدية بعد تراكمه في الغلاف الجوي، لاحتوائه على حامض الكبريت، معرّياً الغابات من أوراق أشجارها”.
الأرقام تحكي
بالأرقام، بلغت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مستويات قياسية مع نهاية العام 2022. فقد ارتفعت بنسبة 0.9% مقارنة مع العام 2021 لتصل إلى حوالى 36.8 مليار طن بحسب الوكالة الدولية للطاقة. أما حصة لبنان من انبعاثات غازات الدفيئة على المستوى العالمي، فقُدّرت بأقل من 0.07% في العام 2019. ووفق التقرير الوطني الرابع، تمثّل الانبعاثات التي يولّدها قطاعا الطاقة والنقل 80% من انبعاثات غازات الدفيئة لدينا. لكن ماذا نحن بفاعلين؟ بحسب اتفاق باريس (كوب 21)، يجب أن تتراجع انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 45% مع حلول العام 2030. السبيل إلى ذلك هو “ضرورة التوجه إلى الطاقة النظيفة. فبدلاً من استخدام مسبّبات ثاني أكسيد الكربون والميثان وكبريتيد الهيدروجين، يجب التحوّل إلى استخدام الطاقة الشمسية، البطاريات، السيارات الكهربائية، والألواح الشمسية”، والكلام لافرام. وعن سؤال عن إمكانية عكس المسار الانحداري هذا، أعرب عن صعوبة كامنة كون “ما خسرناه خلال سنوات طويلة لا يُعوَّض بفترة وجيزة، لا سيّما وأن ليس ثمة قدرة للمعامل على تركيب الفلاتر الضخمة وباهظة الثمن، كما أن الدول الصناعية الكبرى لا تكترث لما تسبّبه من دمار بيئي حيث أن استدامة الربح المادي تتحكّم بالمعادلة”.
أبعد من المقارنات
نعود من حيث بدأنا. إلى الرجل والمرأة. فقد أظهرت دراسة سويدية سبقت نظيرتها الفرنسية سنة 2021 أنه بالرغم من إنفاق النساء على السِلَع بشكل أكبر، فإن شغف الرجال بالسيارات واللحوم يجعلهم مساهمين بشكل أكبر في ظاهرة الاحتباس الحراري. هي مقارنة أخرى تمرّ بين السطور. لكن ما علينا. لبنان، على الورق، يطمح إلى الحدّ من انبعاثاته على المستوى الوطني بنسبة 20%، بدون قيد أو شرط، وبنسبة %31، بشكل مشروط، بحلول العام 2030. والتحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة مع تحقيق المزيد من التخفيض في مجالات النقل ومعالجة مياه الصرف الصحي والتحريج أركان خطة ذلك التحوّل المرجو. وإلى حينه، تبقى التربية أبرز الأدوار التي يمكن للمرأة – تحديداً – من خلالها المساهمة في مكافحة التغيّر المناخي. “حين نعمل على تربية جيل جديد يحسن فرز النفايات وترشيد استهلاك المياه والكهرباء، فنحن نزرع في هؤلاء الوعي البيئي السليم”، كما تختم قاعي. باختصار: التربية، أولاً. المقارنات الأخرى على أنواعها، ثانياً.