Site icon IMLebanon

ساعات ساعات! 

أبراج تتوسّط الساحات والصروح وتعبق بالفنّ والتاريخ

 

كرقّاص ساعة خائر القوى يتلاعب بنا أهل الحلّ والربط. تارة نُقذَف مع عقارب الساعة، وطوراً عكسها. اللعب على العقارب ضيّع – ولا يزال – كثيراً من وقتنا وأعمارنا وأرزاقنا. لكن، مع ذلك، للعبة الوقت والساعة وجه لبناني جميل. من ساعات الساحات التراثية التاريخية، إلى ساعات الساحات الحديثة وما بينهما. رحلة في التاريخ والإبداع يحلو الغوص في طيّاتها.
نترك اللعب على الوقت ومعه لمُتقنيه، ونبدأ رحلتنا الاستكشافية. فالساعات التراثية لا تزال، رغم التطوّر التكنولوجي، تحافظ على قيمة فنية، تاريخية وحضارية. والارتباط النفسي والاجتماعي بـ”رنّتها” جعلها جزءاً لا يتجزأ من نسيج لبنان. تواصلنا مع البروفسور المهندس خالد عمر تدمري، الأستاذ في كلية العمارة والفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية ومؤلّف كتاب “بيروت والسلطان” – الصادر في العام 2002 عن بلدية بيروت والذي أعيدت طباعته عام 2010 بمناسبة اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب – لنسمع أكثر.

 

مِن وسط بيروت

“بدأت مشاهدة أبراج الساعات في مراكز المدن الكبرى منذ نهاية العصر العثماني، وتحديداً في الفترة المعروفة بِعَهد التنظيمات العثمانية التي رافقت تحديث الدولة العثمانية وتأثّرها بالتنظيم المدني والتحديثات الإدارية والتخطيطية والعمرانية التي شهدها مركز السلطنة (اسطنبول) متأثراً بالحضارتين الغربية والأوروبية”، كما يفتتح تدمري كلامه لـ”نداء الوطن”. وبمناسبة تولّي السلطان عبد الحميد عرش السلطنة، أمَر ببناء أبراج ساعات في عدد من الولايات، إذ اعتُبرت من الآثار الخيرية ذات المنفعة العامة لأنها كانت تدلّ الناس على التوقيت الصحيح.

إلى لبنان. البداية مع برج الساعة الحميدية في بيروت والذي شُيّد في العام 1897 بمناسبة مرور 20 سنة على تولّي السلطان عبد الحميد الحكم. حينها، وجّه رئيس بلدية بيروت بِرَفع البرج على التلة التي كان يجاورها السراي العثماني (القشلة) التي تُعرف بثكنة الجيش المجيدية. وفي الجهة المقابلة له بُني المستشفى العسكري (مجلس الإنماء والإعمار حالياً)، كما السراي الكبير (مقر رئاسة مجلس الوزراء حالياً). ويشير تدمري إلى أن الكتابة ما زالت موجودة فوق مدخل الساعة وهي مزيّنة بشعار الدولة العثمانية وتحتها الكتابة العثمانية بالشعر تأريخاً لبناء البرج. أما المصمّم، فكان المهندس الشهير يوسف أفتيموس (مهندس بلدية بيروت)، وهو صاحب فضل في تصميم عدد كبير من الأبنية الرائعة في مدينة بيروت ومناطق أخرى من جبل لبنان.

لكن كسائر المباني المجاورة، تعرّض البرج للخراب أثناء الحرب اللبنانية وأعيد ترميمه وتشغيله من جديد من ضمن مشاريع إعادة إعمار وسط بيروت على يد الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي ثبّت لوحة على الجانب الآخر منه يؤرّخ فيها عملية الترميم.

… إلى طرابلس

ننتقل إلى برج الساعة في طرابلس التي كانت لها مكانتها أيام الدولة العثمانية. وهي شهدت، خلال ولاية مدحت باشا والي سوريا، تنظيم ساحة إدارية جديدة لها وَوَسط مدينة جديد – أي ساحة التل التي أنشىء فيها السراي الحكومي، مركز البلدية، المدارس النظامية، الحديقة العامة (المنشية)، المصارف، الفنادق وغيرها. وفي العام 1902 بمناسبة 25 سنة على تولّي السلطان عبد الحميد العرش، تقرّر رفع برج الساعة في هذه النقطة بالذات لِتَصل رنّاته إلى كافة أنحاء المدينة.

هذا البرج لم يسلم أيضاً من التخريب ومن زخّات الرصاص في خلال فترة الحرب اللبنانية وصراعاتها، كما سُرِق جزء من ساعته الميكانيكية. بلدية طرابلس بادرت في مطلع التسعينات إلى إعادة تشغيل الساعة عبر جهاز إلكتروني رُبِط بالأقمار الصناعية لضبط التوقيت مع الإبقاء على الساعات ذات العقارب من الخارج. ويضيف تدمري: “بمناسبة يوم طرابلس، قمنا في لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس عام 2016، بتأمين تمويل من وكالة التعاون والتنسيق التركية، لترميم برج الساعة كبناء من الخارج والداخل وإعادة الرونق للأجزاء المفقودة. كذلك، أعدنا ترميم اللوحات التاريخية التي تحمل شعارات الدولة العثمانية، وإنارة البرج بشكل فنّي”. غير أن رنّة الساعة التي كان لها وَقْع خاص على المدينة لأوجه الشبه مع رنّة ساعة بيغ بِن الشهيرة، ما لبثت أن صمتت من جديد للأسف.

 

والأجهزة فرنسية

ثالث أبراج الساعة الشهيرة في لبنان هو برج ساعة العبد في وسط ساحة النجمة في بيروت. وهو، كما تدلّ التسمية، بُني بتبرّع من مهاجر لبناني في المكسيك واسمه ميشال العبد. تم إنشاء البرج عام 1933 بارتفاع حوالى 15 متراً. وبقي لغاية العام 1966 معلماً بارزاً إلى أن قرّرت البلدية نقله إلى كورنيش النهر بالقرب من العدلية بسبب ظهور آثار تحت الأرض في موقع الساعة. لكن بعدها بسنوات قليلة اندلعت الحرب وتضرّر البرج بشكل كبير وسُرقت آلاته، ليتحوّل إلى هيكل حجري شبه مدمّر. وفي العام 1996 قرّرت سوليدير إعادة هذا المعلم الجميل إلى موقعه الأساسي وترميمه وإعادة تشغيل ساعته.

بحسب تدمري، أجهزة الساعات كانت تُستورَد من فرنسا التي اشتهرت فيها يومذاك شركة بول غارنييه: “يمكن ملاحظة أن الساعات التي ثُبّتت في محطات القطار، ولا تزال إحداها موجودة في محطة قطار بيروت على الحائط عند مبنى المسافرين، كانت أيضاً من الماركة ذاتها”.

ثم هناك أبراج ساعات ارتفعت فوق مبانٍ تعليمية، منها برج ساعة مبنى College Hall التابع للكلية السورية الإنجيلية حينها، الجامعة الأميركية في بيروت اليوم، في العام 1871. وثمة برج مشابه له في منطقة عينطورة، وتحديداً في مدرسة مار يوسف، تمّ بناؤه في العام 1904 وما زال يتوسّط مجموع المباني في المدرسة حتى الآن.

 

مِن غزير إلى الكورة…

نكمل جولتنا مع تدمري، وننتقل إلى منطقة غزير، وتحديداً إلى قصر المزار الذي بناه الأمير بشير الشهابي الثاني لابن شقيقه. البناء جرى على أنقاض برج روماني ليتحوّل بعدها إلى مدرسة خاصة هي مدرسة مار لويس التي خرّجت شخصيات بارزة. وفي العام 1905 تم تشييد برج صغير يضم ساعة بأربعة أوجه تخليداً لذكرى تأسيس المدرسة التي أُغلقت عام 1930 وتحوّلت إلى مصنع للنبيذ. وتُعتبر هذه الساعة من بين أقدم أربع ساعات موجودة في لبنان.

ومن أبراج الساعات الجميلة والشهيرة أيضاً برج ساعة بلدة كوسبا الكورانية الذي بُني مِن قِبَل أحد أبناء البلدة ويدعى ناصيف حنا ناصيف. البناء، ويعود إلى العام 1927، كان حجرياً أما الساعة فميكانيكية ولا تزال في الخدمة ملحقةً بكنيسة ملاصقة ومتوسّطةً البلدة من على تلة مشرفة.

ماذا بعد؟ “هناك برج ساعة قريب من كوسبا في منطقة أميون، وهو على مقربة من السراي الحكومي. البرج أنشئ عام 1958 من قِبَل جمعية النهضة الخيرية العمرانية. لكنه أُهمل وتوقفت الساعة عن العمل خلال فترة الحرب ليُعاد لها رونقها بعد ترميمها في العام 2012″، والحديث دوماً لتدمري.

 

تراث وحداثة

ساعة من زهور؟ نعم. ففي العام 1970، صمّم اللبناني ميشال مدوّر ساعة الزهور في حديقة ساحة البرج البيروتية وكانت تُعتبر أروع ساعات الساحات العامة في الشرق الأوسط. فإضافة إلى روعة التصميم، كانت الساعة تذيع الوقت بلغات ثلاث وتعزف النشيد الوطني اللبناني ظهر كل يوم. ودأب اللبنانيون على الاجتماع حولها سنوياً للإحتفال بعيد الاستقلال. يوم كان ما يجمع أكثر بكثير مما يفرّق… وثمة المزيد. فإلى جانب أبراج الساعات التراثية والتاريخية، ارتفعت أبراج أخرى في قرى وبلدات عدة في فترات لاحقة. ومنها برج الساعة الموجود على أوتوستراد أنطلياس وبرج ساعة ساحة الجْدَيدِة. وهناك أيضاً كنائس ومدارس إرسالية تضم أبراج ساعات صغيرة. مثلاً، برج كنيسة مار جرجس في بلدة إهدن الذي بُني عام 1880، وبرج ساعة كنيسة سيدة النجاة في زحلة (مقر مطرانية الروم الكاثوليك) الذي شُيّد بعد الحرب العالمية الأولى وأعيد ترميمه بعد تضرّره جرّاء انفجار المطرانية سنة 1987.

الجولة ممتعة وتضجّ بالفنّ والتاريخ. لكن تعالوا نُنهي ببعض من أمثلة وأقوال كثيرة تدور في فلك “الساعة”. من “الساعة السودا” و”ساعة النحس” إلى “ساعة الغفلة” وتلك “يلي لا بتقدّم ولا بتأخر”. منّا من يطمع بـ”ساعة” إضافية “بِقُرب الحبيب” ومعظمنا يسأل الله أن ينجّينا من “ساعة التخلّي”. وهي الساعة التي تضبط إعداداتها تصرّفات كثيرين من أهل الحلّ والربط إياهم. فمتى تأتي “ساعة الفرج”؟

 

ساعات عبر الزمن

حكاية الساعات تاريخ من تاريخ. فأقدمها هي الساعات الشمسية التي كانت تعكس الدورات التي تحدث في السماء كي يراها عامة الناس. أما الساعة المائية فصَنعها المصريون القدامى وهي عبارة عن وعاء مثقوب القعر ويطفو على سطح الماء. انتقالاً إلى الساعة الرملية التي عرفتها الحضارة السومرية في العام 3300 قبل الميلاد وهي عبارة عن غرفتين زجاجيتين متقابلتين تتساقط فيها حبات الرمل من الغرفة العلوية إلى السفلية بمعدّل ثابت.

وإليكم الساعة البخورية. فقد عرفتها الصين في القرن السادس ميلادي وهي كناية عن عصا من بخور ذات قياسات محدّدة يكفّ فيها البخور عن الاشتعال لدى انقضاء ساعة كاملة. وخلال القرن الحادي عشر، ابتكر عالم فلك صيني الساعة الفلكية التي تُدار بالماء وتُستخدم فيها تقنية ميزان الساعة. بعدها جاءت الساعة الشمعية حيث مثّلت مدّة إذابة الشمعة ساعة واحدة. كما ساعة الفيل وهي ساعة مائية على شكل فيل ضخم كانت تُضبط عند شروق الشمس وعند غروبها.

أما الساعة الميكانيكية فَعَرَفها الرهبان في الكنائس الأوروبية منذ القرن التاسع وتم تطويرها على يد العثمانيين خلال القرن السادس عشر لتكون أول ساعة تحتوي على ثلاثة مؤشرات: الساعة والدقائق والثواني. وجاءت الساعة البندولية عام 1656 لتنتشر بشكل واسع قبل أن يتم ابتكار ساعة اليد في الفترة نفسها كمحطة فاصلة في صناعة الساعات. وما لبثت أن طُوّرت ساعة اليد في العام 1880 إلى ساعة كهربائية انضغاطية من بلّورات الكوارتز، وسُمّيت بساعة الكوارتز. وكرّت السبحة مع وصول الساعة الذرية في العام 1949 لتدخل الساعات مؤخّراً طور الرقمنة المفتوح على كلّ الاحتمالات التطويرية.