IMLebanon

إغلاق ثمانين مسجداً أكبر قرار ثقافي مسلم منذ أحداث 11 أيلول 

تمثِّل خطوة الحكومة التونسية بعد المجزرة الإرهابية في سوسة بإغلاق ثمانين مسجدا في أنحاء مختلفة من تونس أهم قرار اتُخذ ضد ثقافة الإرهاب الديني الإسلامي في العالم منذ أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية.

إنه على الصعيد الرمزي والمعنوي أهم قرار على المستوى العالمي أي ليس قياساً فقط بقرارات الحكومات التونسية السابقة، بل قياسا بكل قرارات الحكومات الأميركية والفرنسية والبريطانية والمصرية والكثير غيرها منذ بدأت المواجهات مع تنظيم “القاعدة” والمنظمات التي تفرّعتْ عنها في العقد ونصف العقد المنصرمين. ولا فارق مع الأسف في هذا المجال خارج تونس لأن الإرهاب التكفيري ألغى في الواقع مفاعيل منعطف “ثورات الربيع العربي” الإيجابية بل الثورية ديموقراطيّاً حتى إشعار طويل جدا آخر.

لماذا إعلان الحكومة التونسية إغلاق ثمانين مسجدا – والشروع بتنفيذه منذ أمس الاثنين على معيار “المرخَّص وغير المرخَّص” – هو رمزيا ومعنويا القرار الأهم بين قرارات الحكومات المسلمة في العالم منذ العام 2001؟

أولاً: لأنه قرار ثقافي أي في مواجهة أحد محرّمات رئيسية استطاع الفكر الأصولي فرضها في العصور الحديثة وهي أن مبنى أي مسجد لا يُمس.

ثانيا: لأن السلطة السياسية التي تعطي لنفسها وبوضوح حقّ التقرير في مسائل دينية أو تتعلّق بالدين هي سلطة تكتسب مشروعية دينية حتما ومن دون مواربة. أي أنها ترفض “الإحراج” الجوهري الذي يضع فيه الإسلام الأصولي دولاً وشرائح واسعة ومن المجتمعات المسلمة باسم الدين تحت سيف ابتزاز خطير وأعلى وأخطر أشكاله هي الرمزية المسجدية. فبهذا القرار تقتحم الحكومة التونسية مباشرة قدس أقداس الابتزاز الأصولي للمقدّس الديني وتعلن أنها هي التي تقرِّر لا فقط شرعيته القانونية بل الأساس شرعيته الدينية.

ثالثا: إن الحكومة التونسية تعلن بهذا القرار أنها حكومة مسلمة في العمق لأنها صاحبة قرار حيال الرمز الديني نفسه وليست في موقع يقرر فيه الأصوليّون على اختلاف أنواعهم مشروعية أو عدم مشروعية الرمز الديني.

رابعا: النظام التونسي يؤكِّد علمانيّته لا فقط إسلامه في قرار إعطاء الحق لنفسه بإغلاق أو الشروع بإغلاق ثمانين مسجدا (في بلد يعجّ ككل الدول المسلمة بآلاف المساجد). هذا هو أحد التطبيقات المفقودة والتي يمكن التأسيس عليها للعلمانية. الفصل بين الدين والدولة بل إخضاع ممارسات الدينيين، وليس الدين عملياً، لسلطة القانون.

هكذا يمكننا القول ان البورقيبيّة الثانية تولد اليوم في تونس بطبيعة ديموقراطية. وتقدِّم تونس مرة أخرى، إضافةً إلى كونها النموذج الوحيد الناجح في “الربيع العربي” للتغيير السلمي الديموقراطي، نموذجاً في الجرأة لفصل الدين عن الدولة بعدما نجحت في عقلنة مواقع القوى الأصولية ومنعت سيطرتها على “الديموقراطية” كما حدث في مصر وكما حدث في تركيا. في مصر جرى التصدّي العسكري المدعوم بتأييد شعبي هائل للتمادي الأصولي وفي تركيا أفرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة وبشكل ديموقراطي عن بدء إنهاء مشروع تسلّطيّة فردية دينية شعبوية.

فعلاً تونس نموذج مرةً أخرى. هذه المرة لبدء تأسيس أو إعادة تأسيس شرعية تدخّل الدولة، إذا جاز التعبير، بالشرعية الدينية. ولهذا فإن لقرار إغلاق ثمانين مسجدا معنى تاريخيّا من حيث أنه أول قرار من نوعه داخل الشرعية الثقافية لهيمنة الأصوليين عبر الدين.

خامساً: هذا قرار يمكن لحكومات أخرى غير مسلمة التأسيس عليه من حيث القدرة على إغلاق أي كنيسة أو كنيس أو معبد هندوسي يستخدمه التعصّب الديني لتهديد السلم الأهلي في أي بلد. الأكيد أن إغلاق مركز ديني مسلم أو غير مسلم ليس حالة نادرة ولكن غير العادي أن يصدر قرار واحد بإغلاق هذه الكمية الضخمة من المعابد دفعةً واحدة كما حصل في القرار الطليعي للحكومة التونسية. وفي بلد ذي عراقة إسلامية جذاّبة ومشعّة في تاريخ المنطقة قبل أن يبدأ الإرهاب الأصولي بتدمير حيواتنا.

يمتلئ عالمنا بمشاكل تتعلّق بالاستخدام السيّئ للمراكز الدينية ولا سيما عشوائيّتها.

بين هذه الأمثلة الموجودة في معظم بلداننا مثلان لبنانيان قديم وحديث: الأول حين هددت مئذنة أحد جوامع منطقة الكوكودي المحاذية لمطار بيروت الدولي سلامة الطيران المدني ولم تستطع الدولة، “بين هلالين” يومها، أن تلغي هذا التهديد الدائم. لا ينقص لبنان جوامع. المثل الآخر عندما جرى في الأشرفيّة إحراق العلم الأسود حامل الشعار الديني باعتباره علم “داعش” فحصل اعتراض شهير من أحد الوزراء، بل من وزير العدل، مدعوما بتأييد عدد من السياسيين على الإحراق باعتباره ضد الإسلام!

يحصل القرار الثوري الثقافي والسياسي التونسي في وقت، ويا للمفارقة الهائلة، تواصل فيه التيارات التكفيرية (داعش والقاعدة) من العراق إلى سوريا والآن حضرموت في اليمن هدم مقامات ومساجد دينية تاريخية مما يُفقد التراث الإسلامي بل العالمي آثاراً ثقافيّةً لا يمكن تعويضها.

مع قرار الإغلاق الحضاري وضد قرار الهدم المتوحِّش. وكلاهما يحدثان معا: الإغلاق البنّاء والهدم التدميري.

لكن العلمانية في العالم المسلم سيكون قرار الإغلاق التونسي محطة نوعية فيها. بناء جامع للحاجة شيء، وهذا جزء من تقاليدنا، وبناء “مُفَرِّق” للتكفير والقتل شيء آخر.